بات جليّاً أنّ لعبة تقاذف التهم بعرقلة تأليف الحكومة، لا تهدف إلّا إلى ملء الفراغ الحاصل، من خلال شدّ العصب الجماهيري، لكون المعنيّين يتصرّفون على أساس أنّ زمن التأليف لم يحِن بعد، وكلٌّ لاعتباراته، حتى لو ادّعوا غير ذلك. لذا يحاولون استثمار الوقت الضائع من خلال التصلّب في المواقف وتوظيفه لدى الجمهور، استعداداً لجولة الحسم التي لم يأتِ وقتها بعد.
بهذا المعنى تُفهَم “معركة الوجود” التي قرّر رئيس “التيار الوطني الحرّ” جبران باسيل خوضها بعدما فتح النار على كلّ القوى السياسية تقريباً، باستثناء “حزب الله”، الذي قرّر اللجوء إليه هذه المرّة بصفة “وسيط صديق” أو “حَكَم أمين يثق به”، من دون أن يحدّد كيف يُهدَّد الوجود المسيحي، وكيف يمكن للثلث المعطِّل أو الوزيرين المسيحيّين أن يضمنا هذا “الوجود”. كذلك يفعل رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري الذي يطير ويحطّ من دون أن يوضح للرأي العام ما هي العلل أو العقد التي تحول دون تأليفه حكومة لا يُراد منها إلا وقف الانهيار الذي سيأكل الأخضر واليابس حين سيقع محظوره.
إنّ لبعض معارضي باسيل وجهة نظر مناقضة كليّاً لنظرة العونيين. يقول هؤلاء إنّ الارتباك يصيب العلاقة في الصميم بسبب سوء أداء باسيل، مشيرين إلى أنّ الفريقين أخطآ في إدارة اللعبة على عدّة مراحل، وهو ما أدى إلى وقوع البلاد في المحظور
ولكن بالعودة إلى العلاقة بين “التيار الوطني الحر” و”حزب الله”، فإنّ انسداد الأفق السياسي عاد يطرح سؤالاً: ما مدى عمق الأزمة التي تصيب هذا التفاهم، وهل يقف الفريقان على حافّة الافتراق أم تجمعهما مصلحة استراتيجية فيما تبعدهما التفاصيل الحكومية؟
في الواقع، رفعت حدّة الانتقادات، التي راح يوجّهها بعض العونيين، وآخرهم نبيل نقولا وناجي حايك، من منسوب السؤال عن قدرة هذا التفاهم على الصمود بوجه سيل التحفّظات والخلافات التي أصابت العلاقة في صميمها وعمقها، وعرّضتها لسيناريو الطلاق، خصوصاً أنّ المواكبين يعتقدون أنّ ثمّة خلافاً عميقاً بين الفريقين على الملف الحكومي، ولهذا رمى باسيل الكرة في ملعب “حزب الله”، ولو أنّه استخدم لغة “المونة” و”الثقة” و”الائتمان”، إلّا أنّ هذا الخطاب يُخفي تبايناً جليّاً بينهما.
وفق بعض العونيين، لا تحتمل المسألة كلّ هذا التأويل والاستفاضة في البحث عن الخلفيّات والتداعيات. بنظر هؤلاء، ردّ رئيس التيار بالطريقة نفسها التي يتعامل بها معه خصومه، وهو ما اضطرّه إلى استخدام لعبة شدّ العصب. لكنّ التيار، كما بقيّة القوى السياسية، يتصرّف على قاعدة أنّ زمن التأليف لم يحِن بعد. وجلّ ما يحاول باسيل القيام به هو تحسين موقعه التفاوضي بانتظار أن يقرّر رئيس الحكومة المكلّف القيام بواجبه، مع العلم أنّ بعض العونيين مقتنعون أنّ رياح التغيير الإقليمية والدولية ستكون لمصلحتهم، ولذا لا يتوقّفون عند تفاصيل بعض التباينات التي تصيب العلاقة، معتبرين أنّ الالتقاء الاستراتيجي يحميها من هذه التشوّهات العابرة.
في المقابل، فإنّ لبعض معارضي باسيل وجهة نظر مناقضة كليّاً لنظرة العونيين. يقول هؤلاء إنّ “الارتباك يصيب العلاقة في الصميم بسبب سوء أداء باسيل”، مشيرين إلى أنّ “الفريقين أخطآ في إدارة اللعبة على عدّة مراحل، وهو ما أدى إلى وقوع البلاد في المحظور، ووقوع التفاهم في مطبّ الخلافات العميقة، بسبب سياسة الدلع التي كان يمارسها باسيل، مقابل سياسة التطنيش من جانب “الحزب”. ثمّة تراكم للأخطاء المرتكَبة من جانب الفريقين، فيما كان يُفترض بهما أن يطوّرا العلاقة لا أن يتركاها على رصيف الالتقاء وتنفيذ الأجندة السياسية لباسيل، الذي بنى كل استراتيجية علاقته بالحزب على قاعدة تأمين مصالحه، وحين بلغ حائطاً مسدوداً راح يحرق كل الجسور، بما فيها تلك التي تربطه بالضاحية الجنوبية، ليصير البلد وقوداً لمعركة “وجوده” لا أكثر”.
انسداد الأفق السياسي عاد يطرح سؤالاً: ما مدى عمق الأزمة التي تصيب هذا التفاهم، وهل يقف الفريقان على حافّة الافتراق أم تجمعهما مصلحة استراتيجية فيما تبعدهما التفاصيل الحكومية؟
ويشير هؤلاء إلى أنّ “حزب الله، وعلى عكس ما يروّج له بعض العونيين، يعطي التيار هامشاً من الانتقادات لكي يحسّن وضعه الشعبي، لكنّ ما يقوم به التيّار مؤذٍ للتفاهم لكونه يجيّش المسيحيين ضد حزب الله بما يعطي مشروعيّة لخطاب الخصوم، فيما وظيفة التفاهم هي تقريب المسيحيين من الحزب”.
ويقول هؤلاء إنّه “أمام الفشل الذي راكمه باسيل بسبب سياسة التفرّد والجشع والأحاديّة، ها هو الآن يحاول غسل يديه من الانهيار الحاصل تحت عنوان أنّ التيار ليس جزءاً من المنظومة، وقرّر فتح النار بكلّ الاتّجاهات بعدما فقد كلّ شراكة، محليّة ودوليّة. وها هو يرمي فشله على “حزب الله”، رافضاً الاعتراف بأيّ خطأ ارتكبه”.
ويسرد هؤلاء سلسلة مؤشّرات من شأنها أن تدلّ بالإصبع على عمق الأزمة التي تصيب علاقة باسيل بـ”حزب الله”، “ولعلّ أحدثها رفض الحزب للانتخابات المبكرة وتمسّكه بتكليف الحريري، وهو المتيقّن أنّ باسيل يعمل جاهداً لتقويض هذا التكليف، ثمّ تفويض برّي القيام بمبادرة حكومية، خصوصاً أنّ الحزب يعرف جيّداً أنّ رئيس الجمهورية ميشال عون، كما باسيل، لا “يهضمان” دخول رئيس المجلس على هذا الخطّ”.
إقرأ أيضاً: الحزب “محشور” بين باسيل وبرّي… وبشّار
ويرى هؤلاء أنّ “حزب الله يتعامل مع التيار الوطني الحر على قاعدة رفض الاشتباك والاصطدام معه لكونه عاجزاً أو غير راغب بتقديم أيّ شيء لحليفه، خصوصاً أنّ المرحلة تغيّرت، وثمّة التزامات دولية أعطاها الحزب في ما خصّ الحكومة. لكنّه، في المقابل، لا يستطيع “المونة” على الجنرال، ويحاول الضغط بالحدّ الأدنى من دون أن يقارب خيار قطع شعرة معاوية”.