مايكل هدسون: أول “مبشّر” بالحرب الأهلية اللبنانية

مدة القراءة 5 د

غيَّب الموت في 25 أيار المنصرم أُسطوناً من أساطين الدراسات الشرق الأوسطية، البروفيسور مايكل هدسون. وقد ولد هدسون في 2 حزيران 1938 في مدينة نيوهيفين بولاية كونيتيكت لأب أميركي مختصّ في التخطيط الحضريّ وأمّ من جنوب أفريقيا. وعلى ما يبدو، فإنّ هدسون مرتبط ارتباطاً عضويّاً بالجامعات ومعاقل الدراسات والبحوث. فقد ولد في نيوهيفين، التي تحتضن واحدة من أهمّ جامعات الولايات المتحدة، وهي جامعة ييل العريقة. وترعرع في مدينة أوربانا – تشامبين بولاية إيلينوي، التي توجد فيها جامعة إيلينوي، وفي أن آربر بولاية ميتشيغان، وهي مدينة جامعية حيث مقرّ جامعة ميتشيغان المميّزة.

شبّ هدسون وتعلّق بالشرق الأوسط منذ أمد بعيد. ففي أثناء دراسته في بيروت في عام 1958، شهد هدسون إنزال قوّات مشاة البحرية الأميركيّة بدواعي صدّ قوى شيوعية في لبنان أثناء الفتنة الأهليّة التي كادت أن تعصف بلبنان في فترة حكم كميل شمعون. وبحسّه المتّقد، بدأ اهتمام هدسون بالمنطقة، وبلبنان خاصّة.

، قام هدسون، مع زملاء عرب وأميركيّين، بتأسيس مركز الدراسات العربيّة المعاصرة، وكان مديره لعدّة فترات. وقد أسّس المركز بدعم من عدّة جهات مانحة، بما فيها دولة الإمارات العربيّة المتّحدة والكويت

وبعدما تخرّج في كليّة سوارثمور الخاصّة، توجّه هدسون لدراسة العلوم السياسيّة في جامعة ييل على يد أهمّ علماء السياسة في ذلك الوقت كارل ديوتش. ونال درجة الدكتوراه في عام 1963، وكان موضوع أطروحته عن لبنان، ونُشِر لاحقاً في كتاب عنوانه “الجمهوريّة المتزعزعة: التحديث السياسيّ في لبنان” في عام 1968.

وفي هذا الكتاب تمكّن هدسون من توظيف مفاهيم العلوم الاجتماعيّة في تحليل الواقع السياسي في لبنان. وما توصّل إليه من نتائج كان مذهلاً بالنسبة إلى هذا البلد الذي أحبّه هدسون، واهتمّ لأمره كثيراً. فقد تنبّأ الأستاذ الفذّ بمستقبل لبنان الهشّ الذي ينذر بتفتّته قبل أن تحصل الحرب الأهليّة اللبنانيّة بسبع سنوات.

والأهمّ من ذلك المساهمة الإبيستمولوجيّة التي قام بها هدسون في كتابه هذا، حيث انتقل بدراسته من نمط الدراسات الاستشراقيّة السائدة حينها إلى نمط الدراسات السياسيّة المقارنة. فحيث يركّز الاستشراق على خصوصيّة الواقع العربيّ والإسلاميّ وتواصله مع التاريخ العتيق، تركّز الدراسات السياسيّة المقارنة، التي طبّقها هدسون على حالة لبنان، على تواصل الحالة العربيّة مع الدول النامية التي تواجه معاضل بنيويّة مماثلة. وبهذا يُعتبَر هدسون مِن أوائل مَنْ كسر حائط الاستشراق الضارب حول دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتّحدة، وأسّس لفهم مختلف لهذه المنطقة من العالم.

وبعد اشتهار كتابه حول لبنان، اهتمّ هدسون بقضيّة التنمية السياسيّة في العالم العربي. وكان على موعد مع كتابه الموسوعيّ “السياسة العربيّة: البحث عن الشرعيّة”، الذي نُشِر في عام 1977. وقد أثبتت هذه الدراسة سعة اطّلاعه على السياسات العربيّة من المشرق إلى المغرب. وانطوت هذه الدراسة على منهجيّة مقارنة منتظمة حول الأنظمة العربية التي تسعى إلى تحقيق شرعيّتها السياسيّة في ظل مطالب الجماهير العريضة بقضاياها الملحّة. وقد استطاع أن يربط هدسون مسائل الشرعيّة السياسيّة بمفاهيم التنمية السياسيّة التي كان لها رواج في العلوم السياسيّة حينها.

لم تكن علاقة هدسون بالمنطقة العربيّة علاقةً مهنيّةً وفكريّةً فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى علاقة وجدانيّة، حيث تزوّج عالمة الأحياء الفلسطينية فيرا وهبة المولودة في القدس

وقد طبقت شهرة هذا الباحث والمفكّر الأصيل الآفاق، وأصبح مطلباً لوسائل الإعلام، خاصة بعدما انتقل إلى العاصمة الأميركيّة واشنطن ودرّس في الجامعة العريقة جورجتاون. وقد أتاح له هذا الانتقال وضع يديه على عالم السياسة في العاصمة التي تعجّ بالساسة والدبلوماسيّين والمؤسسات الأكاديميّة والبحثيّة.

من هذا الموقع المميّز، قام هدسون، مع زملاء عرب وأميركيّين، بتأسيس مركز الدراسات العربيّة المعاصرة، وكان مديره لعدّة فترات. وقد أسّس المركز بدعم من عدّة جهات مانحة، بما فيها دولة الإمارات العربيّة المتّحدة والكويت. وقد أصبح هذا المركز، الفريد من نوعه، مقصداً لكثير من الطلّاب والباحثين. وبسبب وجود المركز في العاصمة الأميركيّة، ذاع صيته وكان له تأثير على الإعلام وصناعة القرار.

ولهدسون علاقات وثيقة بدولة الإمارات العربيّة المتّحدة. فقد شغل كرسيّ سيف بن غباش في مركز الدراسات العربيّة المعاصرة. وكانت له زيارات عديدة للإمارات من أجل المشاركة في ندوات ومحاضرات. ودرّس عدداً من طلبة الإمارات في جامعة جورجتاون.

لم تكن علاقة هدسون بالمنطقة العربيّة علاقةً مهنيّةً وفكريّةً فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى علاقة وجدانيّة، حيث تزوّج عالمة الأحياء الفلسطينية فيرا وهبة المولودة في القدس. وكان هدسون منافحاً عن القضايا العربيّة، ولا سيّما القضيّة الفلسطينيّة، فأكسبه  ذلك عداء الجماعات الموالية لإسرائيل.

إقرأ أيضاً: رضوانُ السَّيِّد والشَّأنُ العامُّ

وعلى الرغم من انخراط الفقيد في شؤون المنطقة العربيّة علميّاً ومهنيّاً ووجدانيّاً، إلا أنّه اتّسم دائماً بالاعتدال ورجاحة العقل والرزانة. وكان متّزناً، فلم يتعامل مع المنطقة كعالم مبتوت من المنطقة وأهلها، ولا غمرته العواطف فمنعته من تحليل المنطقة تحليلاً علميّاً موضوعيّاً.  

ستفتقد الساحة العلميّة ودراسات الشرق الأوسط مايكل هدسون، ولكنّ إرثه العلميّ والفكريّ والسياسيّ سيبقى لفترة غير وجيزة.

* كاتب ومفكّر إماراتيّ.

* أستاذ ملحق على كليّة الدفاع الوطني الإماراتية.

* مستشار سياسيّ سابق في القيادة العامّة للقوّات المسلّحة الإماراتية.

* مدرّس مساعد في جامعة ميتشيغان – أن آربر.

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…