سقطت نظرية “الأقوياء في طوائفهم”. بل سقط لبنان. فلنستعرض إشارات السقوط:
– تسرّب من الأجهزة الأمنيّة والعسكرية، ومن الإدارات الرسمية.
– تبادل لإطلاق نار في محطات البنزين تسابقاً على ليترات بالقطّارة.
– تكسير في المستشفيات وعراكات غضباً من تأجيل عمليات جراحية بسبب نقص المستلزمات الطبية، وانقطاع في أدوية أمراض مزمنة.
– تقنين غير مسبوق في الكهرباء، وعتمة شاملة متوقّعة.
– تهديد بانقطاع الإنترنت لأسباب مالية.
– عراكات يومية في المتاجر حول علبة زيت أو كيس أرزّ وأزمة طحين جديدة.
– تقنين مستجدّ في توزيع المياه.
– تزايد حالات الانتحار بسبب اليأس والعَوَز.
أين مكاسب لبنان من نظرية “الأقوياء في طوائفهم” التي قامت على إيصال عون إلى بعبدا لستّ سنوات، وعلى “وعد” عوني تبيّن أنّه كاذب، بأن يكون الحريري “رئيس حكومات العهد كلّها”؟
قامت نظرية “الأقوياء في طوائفهم” على القول إنّ إيصال مَن يمثّلون شرائح أوسع في مختلف الطوائف اللبنانية، إلى مجلس النواب، وإلى المناصب الأولى، سيخفّف الاحتقان السياسي، المسنود على تأجيج مذهبي للخطاب السياسي، من أجل الوصول إلى هذه المناصب.
لكن ماذا كانت النتيجة؟
لنأخذ مثالاً التيار الوطني الحرّ، الذي قامت سرديّته السياسية على أنّ المسيحيين خسروا صلاحياتٍ في اتفاق الطائف، وأرادوا قانوناً انتخابياً يسمح للمسيحيين بانتخاب نوابهم حصراً، وعلى أنّه من الضروري أنّ مَن يحصل على أوسع تمثيل مسيحي نيابي، أن يصير هو رئيس الجمهورية، شرط أن يكون مارونياً بالطبع. وهكذا كان.
فهل خفّف وصول عون إلى رئاسة الجمهورية من مذهبية خطاب التيار العوني؟ بالتأكيد لا. وقبرشمون تشهد، ونبش قبور الحرب الأهلية كذلك، وكلام النائب جبران باسيل في البقاع حين توعّد باسترجاع الصلاحيات من “السنيّة السياسية”، وكلّ حركة باسيل السياسية ومحاولته عزل خصومه، بدءاً من القوات اللبنانية التي ساهمت في إيصال عون إلى بعبدا، وليس انتهاءً بسعد الحريري، “صديق جبران”، الذي انتهى به الأمر إلى “عدوّه” الأوحد والنهائي.
نصل إلى سعد الحريري. سُمّيَ رئيساً للحكومة باعتباره الأوّل بين السنّة، والوارث لربط السنّة اللبنانيين بشخص واحد. فماذا كانت النتيجة؟ جلب لهم وللّبنانيين، بشكل عام، مشاكل كثيرة. فحين يخاصم هذا الشخص، أيّاً كان اسمه، دولةً عربية أو غير عربية، أو أنّ دولة عربية أو غير عربية تستهدف هذا الشخص، يدفع السنّة كلّهم الثمن، وكذلك اللبنانيون جميعاً. وحين يصادق، فله المغانم والخسارات أيضاً، وما يبقى فلبعض بيئته، وربّما لكلّ لبنان.
الارتطام اللبناني سيولّد آليّاتٍ مختلفة لولادة الرؤساء والوزراء والنواب. وما الاستعصاء الدستوري الأخير حول تشكيل الحكومة، إلا السكرات الأخيرة لسقوط نظرية “الأقوياء في طوائفهم”
أين مكاسب لبنان من نظرية “الأقوياء في طوائفهم” التي قامت على إيصال عون إلى بعبدا لستّ سنوات، وعلى “وعد” عوني تبيّن أنّه كاذب، بأن يكون الحريري “رئيس حكومات العهد كلّها”؟
بدأ كسر هذه النظرية بوصول حسّان دياب إلى رئاسة الحكومة، وهو المغمور الذي لا يمثّل أحداً في طائفته، لا سياسياً ولا نيابياً. لم تكن التجربة أقلّ سوءاً من غيرها. ولم تستفزّ العصب السنّي. لأنّها جاءت في لحظة كان اللبنانيون يحملون هويّة واحدة: “الجوع”. لم ينتبه أحد إلى منسوب “سنّية” دياب.
الأرجح أنّ سقوط هذه النظرية، مع سقوط لبنان في عهدها، سيؤدّي إلى الحديث عن رئيس جمهورية من خارج نظرية “الأقوى مسيحياً”. وبالتالي فإنّ مسارعة سمير جعجع إلى الانتخابات النيابية، لكونها ستعطيه صفة “الأقوى مسيحياً”، هي محاولة لاستقراء المستقبل بأدوات الماضي.
رئيس الجمهورية المقبل لن يكون قوياً بالتأكيد. هذه نظرية انتهت. والأرجح أنّ هذا سينطبق على رئاسة الحكومة، ولاحقاً على رئاسة مجلس النواب.
لا نتحدّث هنا عن “الكفاءة”. سيبقى “الظلّ” المذهبي حاضراً، لكنّنا سنذهب إلى أسماء تحظى بتوافقات من مختلف الطوائف، لا بسبب قوّتها المذهبية، بل بسبب علاقاتها وانفتاحها على الآخرين، وبسبب توافقات دولية على “الكفاءة” و”النزاهة” و”الحيادية” النسبية لها.
إقرأ أيضاً: ما أصعب أن تكون رئيساً على شعبٍ يتمنّى غيابك…
قانون الانتخابات الأخير كان نتاجاً لهذه النظرية. وسقوطها على الأرجح سيكتمل بسقوط هذا القانون المذهبي. فالمذهبية ساهمت في إسقاط لبنان، ولا حلول جدّيّة إلا بسحب ما أمكن من سموم مذهبية من القانون الانتخابي الجديد.
سقطت نظرية الأقوياء في طوائفهم. الارتطام اللبناني سيولّد آليّاتٍ مختلفة لولادة الرؤساء والوزراء والنواب. وما الاستعصاء الدستوري الأخير حول تشكيل الحكومة، إلا السكرات الأخيرة لسقوط هذه النظرية.
إستعدّوا لرؤساء “ضعفاء في طوائفهم”.