اجتمعت على لبنان، كما صار معروفاً للقاصي والداني، عدّة أزمات، الواحدة منها يمكن أن تهدم أوطاناً وكيانات. بيد أنّ أغربها وأكثرها دلالةً بالمباشر على هَول المُصاب الوطني: العجز عن تشكيل حكومة تبدأ، على الأقلّ، بحكم الصلاحيّات والقدرة على الإطلال على العرب والعالم، التصدّي للأزمات المتنامية والمتكاثرة التي يصرُّ رئيس الجمهورية على الاكتفاء بمعالجتها في اجتماعاتٍ متوالية بالقصر الجمهوري. وهي اجتماعات تخضع لمزاجيّات تزيد من حدّة التأزّم في شتّى القطاعات، كما هو معروف. وهذا كلّه ورئيس الجمهورية يزعم أنّه ليست لديه صلاحيات تليق بمنصبه السامي الكلّيّ الاحترام، فكيف لو كانت لديه صلاحيات؟!
ولا يحسبَنَّ أحدٌ أنّ فخامة الرئيس بدأت تعطيلاته واستبداديّاته بوصوله إلى كرسي الرئاسة عام 2016. فمنذ عودته الميمونة إلى لبنان من المنفى عام 2005، وتحالفه مع حزب الله عام 2006، وبدء مشاركته في الحكومات عام 2008، صار ديدنه، هو وصهره الكريم، تخريب نظام البلاد ودستورها ومؤسساتها، وصار تشكيل الحكومات عقدة العُقَد، بحيث قضى لبنان زهاء ثلاث سنوات بدون حكومة، وسنتين ونصفاً بدون رئيس جمهورية… حتّى كان الجنرال ولا أحد سواه.
سهلٌ جدّاً عند كل محطة أو أزمة أن يقال: “الدستور لم يعد يصلح، والنظام لم يعد يصلح”. ولا عيب في الدستور ولا في النظام. بل المشكلة في المنظومة أو الطبقة السياسية. وهو الأمر الذي تنبّه إليه البطريرك بشارة الراعي وفقهاء دستوريون كبار من زمان
لقد اعتقد كثيرون أنّ الجنرال منذ الثمانينيّات طامحٌ لرئاسة الجمهورية، وأنّه إذا وصل للرئاسة، فستعود الأمور إلى طبيعتها في نفسه وتصرّفاته، على الأقلّ. لكن منذ عام 2007، جاء على لسانه كلام (تبيّن أخيراً أنّه قاله للسفير الأميركي يومئذٍ في بيروت) يدلّ على أنّه عاد إلى لبنان (بالاتفاق مع سلطة الهيمنة السورية) بأفكار ثابتة: السُنّة والعرب هم الخصوم، والحلّ في تكوين “تحالف أقلّيّات” ضدّهم، يغيّر الدستور والنظام، فيستعيد المسيحيون “حقوقهم”، ورأس الحقوق وسَنامها (كما يقول اللسان العربي، وجماعة عون يقولون إنّنا أهل إبلٍ وعروبة وبداوة!) وصوله هو لرئاسة الجمهورية. وما أمكن إيصاله إلى المنصب السامي، بعد نهاية فترة رئاسة لحود الممدَّدة عام 2007، فجُنّ جنونه، وجمعته مع الحليف الجديد التجربة الأولى لكسر النظام: الحزب صاحب أمجاد حرب تمّوز عام 2006 عنده مشكلة المحكمة الدولية، فسحب الوزراء الشيعة من حكومة فؤاد السنيورة المتمتّعة بالأكثرية على وقْع انطلاقة ثورة الأرز، وأقدم مع الجنرال الأقلّويّ على محاصرة الحكومة في الساحات في قلب العاصمة، وإقفال مجلس النواب لثمانية عشر شهراً، وتعطيل العمل بوسط بيروت الذي صار رمزاً لنجاح رفيق الحريري. ثمّ عندما لم تسقط حكومة السنيورة احتلّوا بيروت، وأرغموا الآذاريّين على الذهاب إلى مؤتمر الدوحة عام 2008.
وعلى الرغم من الأجواء الدولية التي كانت شديدة السلبية على العرب والسُنّة بسبب حَدَث التفجير في نيويورك عام 2001، واحتلال أفغانستان عام 2002، واحتلال العراق عام 2003، ما أمكن جَعْل الهزيمة كاملة… أُقرَّت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان للحكم في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وشكّل فؤاد السنيورة حكومته الثانية (التي سمّاها في كتابه لاحقاً “الحكومة المقيّدة”) التي دخلها فريق الجنرال عون عام 2008، ومنذ ذلك الحين عمل عامداً مع صهره على الاستيلاء على كل شيء، وليس مَثَلاً لإصلاحه بل لإفساده. والنموذج الأبرز وزارة الطاقة (الكهرباء والمياه). الكهرباء أُنفِق من المال العام عليها حتى اليوم زُهاء خمسين مليار دولار (نصف الدَين العام)، ولا يعرفها الموطنون أكثر من ست ساعات في الأربع والعشرين ساعة. أمّا المياه فلا تَسَلْ! عشرات السدود التي هندسها جبران باسيل وأُنفق عليها مئات الملايين من الدولارات، ليس منها واحدٌ يملك إمكان اختزان أيّ مياهٍ وراءه. وهذا إلى مئات العقود في وزارات ومؤسسات الدولة المختلفة والتي ضاعت أكثر أموالها في السمسرات، وأكثر تلك المشروعات لم تكتمل أو لم تُنفَّذ بتاتاً.
أمّا العِلل والتعليلات فكانت دائماً حقوق المسيحيين (ويبدو أنّهم محصورون حقوقاً ومصالحَ بجبران باسيل)، وأنّ الجنرال مظلوم لأنّه لم يصبح رئيساً للجمهورية. وماذا كانت النتيجة قبل الرئاسة وبعدها: انهارت المؤسسات على رؤوس اللبنانيين، ونجا منها الرئيس وباسيل. ولولا “تضامن” الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مع لبنان في مصابه، لنجا باسيل بدون ضربة كفٍّ واحدة.
المحاصصات ما عادت ممكنة ولا مجدية. ولأنّ الأزمة تحكّمت بالرئيس وصهره، وهما في قلبها، فإنّهما يفضّلان المضيّ في الخراب والتخريب، والنسبة إلى الآخرين أسباب إيصالنا إلى جهنّم التي قادوا إليها، وبخاصةٍ إلى أهل السنّة
هل يكون عون وباسيل وحدهما مسوؤليْن؟
لا، بل المنظومة كلّها مسؤولة، وبأحد ثلاثة أساليب: مشاركة الباسيليّين في فسادهم ومحاصصاتهم وهدمهم لإدارة الدولة والوظيفة العامة، أو السكوت عمّا يفعلونه، أو التسليم لهم سياسياً بالمعنى الكبير. أي السير معهم إلى أعماق المحور الإيراني، وتحالف الأقلّيات، والإعراض عن العرب والدوليّين، ولو جلب ذلك الهلاك على ملايين الشعب اللبناني.
الأزمة الأخيرة المستمرّة منذ قرابة تسعة أشهر، أي العجز عن تشكيل الحكومة، انضمّت إلى الأزمات الأُخرى الساحقة للمواطنين والوطن. والعلّة الظاهرة للأزمة أنّ رئيس الجمهورية يريد تعيين كل وزراء المسيحيين، وعددهم تسعة، والثلاثة الباقون، اثنان للمردة وواحد للحزب السوري القومي. مع أنّ الدستور يقول إنّ رئيس الحكومة، الذي اختاره مجلس النواب في الاستشارات الملزمة، هو الذي يشكّل الحكومة بالتوافق مع رئيس الجمهورية، وتصدر مراسيمها بتوقيعيْهما.
من زمان يطالب عون بذلك، ويحصل عليه وعلى الأكثرية في الحكومة. وعندما كان الشريك المسيحي الثاني (القوات اللبنانية) يريد وزارات، اخترعت الرئاسة “حصّة رئيس الجمهورية”، وتعرّض الدكتور سمير جعجع للإجحاف، فصار جبران باسيل هو المسيحي المتفرّد في النظام. وبعد تجاذبات طويلة، و18 جلسة بين رئيسيْ الجمهورية والحكومة المكلَّف، تدخّل الفرنسيون، وتدخّل المصريون، وتدخّل الرئيس نبيه برّي، وأخيراً زعيم حزب الله، فلم يمكن الوصول حتّى الآن إلى توافق، وظلّت البلاد بلا حكومة.
سهلٌ جدّاً عند كل محطة أو أزمة أن يقال: “الدستور لم يعد يصلح، والنظام لم يعد يصلح”. ولا عيب في الدستور ولا في النظام. بل المشكلة في المنظومة أو الطبقة السياسية. وهو الأمر الذي تنبّه إليه البطريرك بشارة الراعي وفقهاء دستوريون كبار من زمان. أمّا لماذا تعذّر التوافق على المحاصصة هذه المرّة، كالعادة، وإنْ بعد مماحكات؟ فلأنّ البلاد انهارت حتى مصارفها العظيمة والقائمة قبل قيام دولة لبنان. ويعني هذا أنّ المحاصصات ما عادت ممكنة ولا مجدية. ولأنّ الأزمة تحكّمت بالرئيس وصهره، وهما في قلبها، فإنّهما يفضّلان المضيّ في الخراب والتخريب، والنسبة إلى الآخرين أسباب إيصالنا إلى جهنّم التي قادوا إليها، وبخاصةٍ إلى أهل السنّة.
ما العمل؟
لا بدّ من كنْس المنظومة كلّها، وفي طليعتها الرئيس. وأكثريّة المعارضين السياسيين لا ترى سبيلاً إلى ذلك إلاّ بالانتخابات المبكرة أو في مواعيدها المحدَّدة في عام 2022. ولستُ على ثقة أنّ الانتخابات ستُغيِّر الكثير. لكنّ كثيراً من المعارضين الملهوفين لا يريدون الانطلاق من ثوابت الدولة والنظام والدستور، ولا يؤكّدون ضرورة تشكيل حكومة لإدارة البلاد والإشراف على الانتخابات. فكأنّهم يفضّلون استمرار حكومة تصريف الأعمال ذات اللون الواحد، والتي يستعين بها عون أحياناً عندما تطيعه، ويستغني عنها أحياناً باجتماعات القصر الجمهوري أو المجلس الأعلى للدفاع.
إقرأ أيضاً: حكومة انتخابات نيابيّة مبكرة من غير المرشحين
لا بديل لتأليف معارضةٍ وطنيةٍ قوية في الانتخابات وقبلها إلاّ بالاجتماع والتوافق والتحالف على النقاط الرئيسة التي دعا إليها البطريرك الراعي. وأنا أرى أنّ هناك سبيلاً ممهَّداً لذلك يتمثّل في مبادرة البطريرك و”البرنامج المرحلي”، الذي تم التوافق عليه في اجتماعٍ كبيرٍ في نقابة الصحافة في شهر تشرين الثاني عام 2020، ودعت إليه “المبادرة الوطنية”، و”التجمّع الوطني اللبناني”، و”تجمّع سيّدة الجبل”. والنصُّ قابلٌ للإكمال والتعديل والتطوير والتغيير. ولذلك أدعو كل التجمّعات الوطنية المعارضة إلى لقاءٍ لمناقشة مبادرة البطريرك والبرنامج المرحليّ، باتجاه تكوين تحالف وطني كبير تدفع باتجاهه الأزمة المستحكمة، وتحكّمات المنظومة، والأمل بمستقبل لبنان ودولته ونظامه:
وطنٌ تفرّق أهله فتقسّما
ورجاله يتشاجرون على السما
والهرُّ في أوطانهم يستأسدُ