تراوح قراءات أوساط سياسيّة متنوّعة لملفّ تأليف الحكومة اللبنانية بين احتمال أن تحدث مبادرة الرئيس نبيه برّي خرقاً في جدار الأزمة الحكومية المستعصية منذ ما يقارب ثمانية أشهر، وبين احتمال أن تنعكس ضبابية المشهد الإقليمي تأخيراً إضافياً في عملية تشكيل الحكومة العتيدة.
– في الإقليم لا تزال مفاوضات فيينا بشأن الاتفاق النووي الإيراني هي الحدث الأهمّ الذي تقاس عليه كلّ بقية التطوّرات السياسية والأمنية في المنطقة، باعتبار أنّ العودة المرتقبة لواشنطن إلى هذا الاتفاق ستكون محطّة مفصليّة في مسار هذه التطوّرات.
حتّى الآن الأمر الوحيد المحسوم أنّ واشنطن مصمّمة على إعادة إحياء الاتفاق، لكن متى وكيف؟ هذان سؤالان لا يزال الغموض يكتنفهما، في ظلّ تبادل الاتهامات بين واشنطن وطهران بشأن نوايا العودة للاتفاق، وإن بوتيرة أقلّ من السابق.
– حتّى إنّ أوساطاً لبنانية ترى في استبعاد مجلس صيانة الدستور في طهران مرشّحين رئيسين، ولا سيّما الإصلاحيّين منهم، إشارةً إيرانيةً تصعيديةً بعد إعلان “محور المقاومة” انتصاره في الحرب بين حماس وإسرائيل. وهو تصعيد يُضاف إلى التصعيد والإرباك الكبيرين في الساحة العراقية بعد توقيف السلطات قاسم مصلح، أحد أبرز قياديي “الحشد الشعبي”، والذي تلاه استعراض لمسلّحين تابعين لفصائل عراقية داخل المنطقة الخضراء.
– في فلسطين فإنّ مشهد ما بعد الحرب لم يتّضح بعد، وسط الجهود المصرية الحثيثة والمدعومة أميركيّاً لتثبيت اتفاق وقف إطلاق النار والمباشرة في عملية إعادة الإعمار. وذلك في ظلّ ضغوط إسرائيلية لتكثيف الإجراءات ضدّ حماس.
– في سوريا تُعتبر إعادة انتخاب بشار الأسد لولاية جديدة خطوةً تصعيديةً إضافيةً من جانب روسيا وإيران ضدّ الولايات المتحدة والأوروبيين الذين امتنعوا عن الاعتراف بهذه الانتخابات.
– في اليمن، فيواصل الحوثيون تصعيدهم العسكري والأمني، إذ يستمرّون في إطلاق المسيَّرات المفخّخة باتجاه أراضي المملكة العربية السعودية، في إجهاض متواصل لجهود إحلال السلام في هذا البلد.
أمام هذا المشهد الإقليمي المعقّد والضبابي، برزت أخيراً مبادرة الرئيس برّي لتأليف الحكومة. وإذا كان رئيس المجلس قد أطلق مبادرته تلك قبل حديث السيّد حسن نصر الله الثلاثاء، فإنّ كلام الأخير جلب ماءً كثيراً على طاحونة برّي. وقالت أوساط لبنانية إنّ “توجيهات” نصر الله في الملفّ الحكومي رسمت صورة للهيكلية السياسية للنظام اللبناني، الذي على رأسه المرشد، أي نصر الله، ثمّ رئيس المجلس، وبعدهما يأتي رئيسا الجمهورية والحكومة.
حتّى الآن الأمر الوحيد المحسوم أنّ واشنطن مصمّمة على إعادة إحياء الاتفاق، لكن متى وكيف؟ هذان سؤالان لا يزال الغموض يكتنفهما، في ظلّ تبادل الاتهامات بين واشنطن وطهران بشأن نوايا العودة للاتفاق، وإن بوتيرة أقلّ من السابق
تنتظر هذه الأوساط، كما غيرها، عودة الرئيس سعد الحريري مساء الأحد أو صباح الاثنين، ولقاءه المرتقب مع الرئيس برّي الثلاثاء، لتستطلع أكثر آفاق الملف الحكومي. لكنّها تشير في الوقت عينه إلى تبادل اللوائح الوزارية الاسمية بين بعبدا وبكركي وبين بيت الوسط وعين التينة، وخصوصاً بشأن الوزيرين المسيحيّيْن محطّ الخلاف. وتلفت إلى الدور المكّوكي الذي يقوم به اللواء عباس إبراهيم في هذا السياق. وكلّ ذلك إشارة إلى أنّه للمرّة الأولى منذ أشهر تحدث حركة جدّيّة في وضع الحكومة.
أوساط سياسية قريبة من البطريركية المارونية تنتظر عودة الحريري إلى لبنان لتعرف اتجاهات حركة الاتصالات الحكومية: “فمفتاح الحلول بيده، وهو الذي سيقدّم التشكيلة الجديدة، ويتواصل مع الأطراف، ويلتقي رئيس الجمهورية ميشال عون”. لذلك يبدو من السابق لأوانه، بحسب هذه الأوساط، التحدّث عن تقدّم في ملفّ الحكومة.
كما تنفي هذه الأوساط أن يكون البطريرك بشارة الراعي يأخذ طرفاً في الملف الحكومي بين الرئيسين الحريري وعون. فالبطريرك، وفقها، ليس قريباً ولا بعيداً من أحد، فما يهمّه هو تشكيل الحكومة. ولذلك يضع المسؤولية على الطرفين المعنيّين مباشرة بتشكيلها. فعندما تلكّأ الرئيس عون في عملية التأليف، لم تسكت بكركي، وعندما يتلكّأ الحريري، لن تسكت بكركي أيضاً، في إشارة ضمنيّة إلى ملامة البطريرك الراعي للحريري على تأخّره في سفره وعدم استعجاله وضع مسوّدة حكومية جديدة، كما تطالبه الأطراف الرئيسة في بيروت.
تنتظر هذه الأوساط، كما غيرها، عودة الرئيس سعد الحريري مساء الأحد أو صباح الاثنين، ولقاءه المرتقب مع الرئيس برّي الثلاثاء، لتستطلع أكثر آفاق الملف الحكومي
غير أنّ أوساطاً سياسيّة أخرى تفضّل الحديث عن موضوع الحكومة بدءاً من استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لقائد الجيش جوزف عون الأربعاء الماضي. وتتحدّث هذه الأوساط عن مهمّة سياسيّة أو تنفيذية قد توكل إلى المؤسسة العسكرية في المرحلة المقبلة، وسط الانهيار المتفاقم الذي بات يشكّل تهديداً متزايداً للاستقرار الاجتماعي والأمني في البلد.
لا يزال هذا الأمر في خانة الاحتمالات الكثيرة بشأن المرحلة المقبلة، لكنّه احتمالٌ يتقدّم أكثر على الاحتمالات الأخرى كلّما انسدّ الأفق السياسي أمام تشكيل الحكومة، وأصبح لبنان عرضةً لمخاطر إضافية، في حين أنّ السنة المقبلة حافلة بالاستحقاقات الانتخابية، سواء البلدية أو النيابية أو الرئاسية. وهي استحقاقات يتطلّب إجراؤها أو تأجيلها استقراراً سياسياً بالحدود الممكنة.
إقرأ أيضاً: الإليزيه تفتتح السباق الرئاسيّ… وباسيل ممتعض
ويُطرَح سؤال أساسي بشأن لقاء ماكرون – عون، وهو: هل ماكرون يتصرّف من تلقائه في الملف اللبناني، أم خطواته الجديدة منسّقة عربياً ودولياً؟ هذا سؤال مطروح ولا إجابة واضحة عنه بعد، بانتظار بلورة المزيد من التفاصيل عن الحركة الدولية بشأن لبنان، وعن الحركة الخارجية للعماد عون الذي يستعدّ لزيارة واشنطن بعد باريس، في وقت يواصل الجيش تلقّيه للمساعدات الأميركية، وتتكثّف اللقاءات والتدريبات المشتركة بين الجانبين. وهو معطى قد يحمل دلالات سياسية للمرحلة المقبلة.
الخلاصة أنّه أمام هذا المشهد الإقليمي المعقّد والمتأرجح بين الحلول والتصعيد، وفي ظلّ مشهد داخلي تتداخل فيه عوامل الانهيار المالي الكبير مع حسابات الأطراف السياسية في مرحلة حبلى بالاستحقاقات الدستورية الرئيسة، ينتظر لبنان أسابيع حاسمة. فإمّا ينجلي الغبار الكثيف عن وجه الحكومة فتبصر النور، وإمّا يذهب البلد إلى مزيد من التقهقر، وإلى مزيد من السيناريوهات العسكرية من “خارج الصندوق”.