ما فعلته حماس في الأيام الماضية يفوق ما فعله “حزب الله” في الأسبوع الأول من حرب تموز 2006. لكنّ ما فعله “حزب الله” في تلك الحرب لم يعد يكفي لصنع انتصار.
ثمّة إشكال يكمن في تعريف الانتصار لكلٍّ من طرفيْ الحرب، وثمّة إشكالٌ أكثر تعقيداً في تعريف طرفيْ (أو أطراف) الحرب. إسرائيل حدّدت هدف الحرب بالتوصّل إلى حلٍّ يوفّر هدوءاً طويل المدى على جبهة غزّة. والمذكّرة الإيضاحية لهذا الهدف تراوح بين حدٍّ أقصى هو تفكيك سلاح الفصائل، وحدٍّ أدنى هو تعطيل مفعوله، على نحو ما جرى مع سلاح “حزب الله” في حرب 2006.
في الجانب الفلسطيني، بدأ إطلاق الصواريخ تحت عنوان كبير جدّاً، هو “انتصار غزّة للقدس”، وأُشفِع بكلام عن إنتاج معادلة جديدة تربط الهدوء على جبهة غزّة بعدم المسّ بالوضع القائم في القدس. لكنّ الخطاب العسكري لحماس في الساعات الأولى لاشتعال الحرب كان يشير إلى ربط التهدئة بالتهدئة، والتصعيد بالتصعيد، على قاعدة “إن زدتم زدنا”. وعليه، لا يعدو الهدف من إطلاق الصواريخ وقف الغارات الإسرائيلية، أي العودة إلى ما قبل إطلاق الصواريخ، وليس فرض معادلات جديدة لمصلحة الفلسطينيّين. وعلى أي حال، فإنّ ما يجري في ساحة الحرب لا يشير إلى إمكان إلزام إسرائيل بتفاهم مع الفصائل يثبّت الوضع القائم في القدس، إن لجهة الاستيطان، وإن لجهة الوجود العربي في المدينة القديمة، وإن لجهة الوضع القائم في الحرم الشريف وبوّاباته وأسواره.
…
لماذا يبدأ الفلسطينيون إطلاق الصواريخ إذا لم يكونوا قادرين على إنتاج معادلة أفضل ممّا قبل إطلاقها؟
يمكن المجادلة في أنّ الحرب مصلحة إسرائيلية، وفي أنّها لم تكن لتبدأ لولا الاستفزاز الإسرائيلي. وسياق الأحداث يسعف لذلك. حتّى إنّ صحيفة “نيويورك تايمز” تسرد مطوّلاً كيف بدأ الاحتقان يتراكم في القدس منذ الليلة الأولى من شهر رمضان في 13 نيسان، حين اقتحمت الشرطة الإسرائيلية الحرم القدسيّ، وقطعت كوابل المكبّرات الصوتية لتكتم صوت صلاة التراويح، خلال إحياء ذكرى الجنود الإسرائيليين القتلى أمام حائط البراق (“المبكى” وفق التسمية الإسرائيلية). وهي ذكرى تسبق بيومين الاحتفالات بقيام دولة إسرائيل في 15 نيسان من كلّ عام. صدر بعد ذلك قرار الشرطة الإسرائيلية إغلاق باب العامود وعدد من الشوارع في البلدة القديمة، ثمّ كانت قضية إخلاء الأسر الفلسطينية من بيوتها في حيّ الشيخ جرّاح لتشتعل موجات مضافة من الغضب.
لا يترك السياق أعلاه مجالاً للشكّ في أنّ للحكومة الإسرائيلية مصلحة في التصعيد، في ظل المأزق الحكومي والبرلماني الذي جعل الرئيس الإسرائيلي رؤوفين زيفلين يجهش بالبكاء أمام الكنيست الشهر الماضي. لكنّ ذلك لا يحجب السؤال عن الحسابات التي قادت حماس والجهاد الإسلامي إلى الردّ على أحداث القدس بإطلاق الصواريخ. فليست تلك المرّة الأولى التي تغلق فيها إسرائيل شوارع في القدس، ولا هي المرّة الأولى التي تُخلي فيها أو تهدم بيوتاً عربية في القدس. لماذا لم تحدث ردّة فعلٍ ميدانية حين قرّرت إدارة دونالد ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس، في أكبر تغيير للوضع القائم في المدينة المحتلّة منذ 1976؟
هناك من هو في حاجة إلى الحرب. إسرائيل تحتاج إليها لاختبار قبّتها الحديديّة وجهوزيّة جبهتها الداخلية ومجتمعاتها الاستيطانية. لا يمكن لإسرائيل أن تعيش استقراراً على كلّ الجبهات لأكثر من عشر سنوات من دون أن تختبر جهوزيّة مؤسساتها العسكرية والأمنيّة والمحليّة للتعبئة.
لا يترك السياق أعلاه مجالاً للشكّ في أنّ للحكومة الإسرائيلية مصلحة في التصعيد، في ظل المأزق الحكومي والبرلماني الذي جعل الرئيس الإسرائيلي رؤوفين زيفلين يجهش بالبكاء أمام الكنيست الشهر الماضي
لكنّ الحرب تفيد طرفاً آخر. بالنسبة إلى إيران و”حزب الله”، مثل هذه الحرب هي مكسبٌ صافٍ. إنّها فرصة لترى بأمّ العين كيف تعمل منظومة القبّة الحديدية، وما نقاط ضعفها. بين عاميْ 1982 و2006، كان لبنان ساحةً لحروب بالوكالة بين إيران وإسرائيل، لكنّ ذلك انتهى الآن. باتت ساحة الجنوب جبهة مباشرة بين اللدودين، فيما باتت غزّة المتنفّس الوحيد لتوجيه الرسائل واختبار القدرات القتالية.
إقرأ أيضاً: إيران نقلت الحرب إلى داخل إسرائيل
في الحرب الدائرة هناك، تختبر إسرائيل جهوزيّتها الدفاعية والهجومية، وتعبّئ ساحتها الداخلية. أمّا إيران فتختبر “حلولها” القتالية الاستراتيجية، وتستطلع الثغرات في دفاعات العدوّ، من دون أن تخسر شيئاً.