لا حاجة الى كثير من اللفّ والدوران. ما يجري في فلسطين إنّما يجري على خلفيّة حرب إسرائيلية – إيرانية صغيرة يُخشى أن تتوسّع لتصبح أكثر شمولاً. كلّ ما في الأمر أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة”، التي تفاوض الإدارة الأميركية في فيينّا وغير فيينّا في شأن ملفّها النووي، نقلت الحرب إلى الداخل الإسرائيلي بعدما خطفت حركة “حماس” ثورة أهل القدس على الاحتلال مثلما خطفت، قبل ذلك، قطاع غزّة بالكامل.
أكّدت “الجمهوريّة الإسلاميّة”، عبر مئات الصواريخ التي انطلقت من غزّة، أنّها تمتلك القدرة على الردّ على العمليات التي تنفّذها إسرائيل في الداخل الإيراني. من يحتاج تأكيداً لذلك يستطيع أن يسأل نفسه من أين جاءت الصواريخ التي تطلقها “حماس” من قطاع غزّة. حسناً، يوجد في غزّة مصانع للصواريخ، لكن من أين تأتي مكوِّنات هذه الصواريخ؟
تبيّن من جولة العنف الدائرة حالياً أنّ صواريخ “حماس” باتت أكثر دقّة وقدرة على التدمير، وباتت تستطيع بلوغ العمق الإسرائيلي. لا يمكن تجاهل أنّ إسرائيل اضطرّت إلى إغلاق مطار بن غوريون في اللدّ، على بعد نحو عشرين كيلومتراً من تلّ أبيب التي استهدفتها أيضاً الصواريخ. يعني ذلك، بين ما يعنيه، وجود حرب حقيقية مرشّحة للاستمرار أياماً أخرى من جهة، وتهديداً جدّيّاً وتحدّياً لا سابق لهما لإسرائيل مصدرهما صواريخ “حماس” المتوسطة المدى من جهة أخرى.
أكّدت “الجمهوريّة الإسلاميّة”، عبر مئات الصواريخ التي انطلقت من غزّة، أنّها تمتلك القدرة على الردّ على العمليات التي تنفّذها إسرائيل في الداخل الإيراني
إذا أخذنا في الاعتبار تسلسل الأحداث، نجد أنّ إيران استغلّت، إلى أبعد حدود، قصر نظر السياسات التي يتّبعها بنيامين نتانياهو الذي لا يهمّه سوى البقاء في موقع رئيس الوزراء، وهو موقع يشغله منذ 12 عاماً.
من أجل بقائه في موقع رئيس الوزراء، لجأ “بيبي” إلى الدفع في اتجاه مصادرة المنازل التي يقيم فيها فلسطينيون في حيّ الشيخ جرّاح في القدس. لم يتردّد أهل الحيّ والمقدسيّون في بدء ثورة على الاحتلال في ظلّ حال من الارتباك في الداخل الإسرائيلي وتجاذبات بين الشرطة والمسؤولين عنها والسلطات البلدية. المهمّ في الأمر أنّ ثورة أهل القدس أدّت إلى تعاطف دولي مع الفلسطينيين وقضيّتهم. أثبت أهل القدس أنّ في استطاعتهم مقاومة الظلم بكلّ أنواعه، وبينها ذلك الظلم الذي ألحقته بهم إدارة دونالد ترامب التي نقلت السفارة الأميركية إلى المدينة المقدّسة، واعترفت بالقدس الموحّدة عاصمةً لإسرائيل.
شمل غضب المقدسيّين السلطة الوطنيّة الفلسطينية، كما شمل “حماس”. كانت ثورتهم على الاحتلال، وعلى السلوك السياسي الفلسطيني عموماً، في ظلّ انسداد كلّ الخيارات أمام رئيس السلطة الوطنيّة محمود عبّاس (أبو مازن)، الذي تذرّع بالقدس لتأجيل الانتخابات التشريعية الفلسطينية.
إذا أخذنا في الاعتبار تسلسل الأحداث، نجد أنّ إيران استغلّت، إلى أبعد حدود، قصر نظر السياسات التي يتّبعها بنيامين نتانياهو الذي لا يهمّه سوى البقاء في موقع رئيس الوزراء، وهو موقع يشغله منذ 12 عاماً
جاءت صواريخ “حماس” لتنقل ثورة أهل القدس إلى مكان آخر.. إلى حيث يريد بنيامين نتانياهو الذي تحلّق حوله أهل اليمين الإسرائيلي مجدّداً بعدما كان تخلّى هؤلاء عنه لمصلحة الوسطيّ يوسي لابيد.
يبدو الخاسر الأكبر حالياً السلطة الوطنيّة الفلسطينية و”أبو مازن” بالذات. صحيح أنّ الرئيس جو بايدن اتّصل به أخيراً، لكنّ الصحيح أيضاً أن لا قدرة من أيّ نوع لدى رئيس السلطة الوطنيّة على التأثير في الأحداث. من يؤثّر في الأحداث هو من يمتلك الصاروخ، أي “حماس”. في النهاية، إنّ قرار “حماس” هو قرار إيرانيّ. وهو في هذه الأيّام إيراني أكثر من أيّ وقت مضى.
هذا لا يمنع الاعتراف بوجود معطيات جديدة لم يعد في الإمكان تجاهلها. في مقدّم هذه المعطيات أنّ الشعب الفلسطيني أثبت أن ليس في الإمكان إلغاؤه. يعيش ما بين سبعة وثمانية ملايين فلسطيني بين البحر المتوسط ونهر الأردن. الأخطر من ذلك كلّه أنّ إسرائيل أثبتت عبر سلوكها مع الفلسطينيين أنّها دولة عنصريّة، وأنّ كلّ ما تقوم به يصبّ في تجاهل الوجود الفلسطيني على أرض فلسطين. للمرّة الأولى منذ 70 عاماً يتحرّك فلسطينيّو الداخل بشكل فعّال في اللدّ ويافا وحيفا وعكّا ومدن أخرى. هذا جديد المشهد الفلسطيني، الذي لن يتبلور قبل انتهاء الحملة العسكرية، التي تستهدف استعادة الهيبة الإسرائيلية، التي استطاعت إيران توجيه ضربة قويّة إليها عن طريق صواريخ “حماس”.
إقرأ أيضاً: كيف أطلق ظريف حرب غزّة من دمشق؟
ما بدأ عمليّاً على أرض فلسطين هو حرب طويلة لا يمكن أن تنتصر فيها إسرائيل لسبب في غاية البساطة. يعود هذا السبب إلى أن لا وجود لعقل سياسي فيها. على سبيل المثال وليس الحصر، يدفع “بيبي” في اتجاه مصادرة بيوت أهل حيّ الشيخ جرّاح في القدس، وهاجسه هو مستقبله السياسي. لم يتوقّع ردّ فعل أهل القدس، ولم يتوقّع ردّ “حماس” انطلاقاً من غزّة. تبيّن أنّ الأجهزة الأمنيّة الإسرائيلية تعرف عمّا في الداخل الإيراني أكثر بكثير ممّا تعرف عن صواريخ “حماس” في غزّة، ومدى تطوّرها…
فوق ذلك كلّه، لا وجود لإدارة أميركية على استعداد للاستثمار في عمليّة سلام بين إسرائيل والفلسطينيين. تكتفي الإدارة بالكلام عن خيار الدولتين. لا يعني ذلك شيئاً على أرض الواقع، في وقت لا همّ لرئيس الوزراء الإسرائيلي سوى إنقاذ مستقبله السياسي، فيما لا يهمّ “حماس” حجم الدمار في غزّة أو عدد الفلسطينيين الذين يموتون فيها بمقدار ما يهمّها تسجيل نقاط لمصلحة إيران.