التطوّرات الإقليمية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في السنة الأخيرة، خصوصاً تلك المتأثّرة باتفاق السلام الإبراهيمي والتطبيع السياسي والاقتصادي والثقافي بين تل أبيب من جهة، ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين من جهة أخرى، دفعت النظام الإيراني إلى إعادة النظر في أدواته السياسية والعسكرية والأمنيّة والاستراتيجية لتناسب ردّة الفعل التي صدرت عنه بعد التوقيع على هذا الاتفاق.
وأطلقت قيادات سياسية وعسكرية سلسلة تحذيرات من تداعيات هذا الاتفاق على دول المنطقة إذا ما وجدت إيران نفسها في معرض التهديد المباشر، خصوصاً التهديد الأمني والحصار العسكري. وقد دفعت هذه المخاوف طهران إلى اللعب على الحافة الأخيرة للهاوية، فلم تتردّد في توجيه رسالة واضحة عن استعدادها للذهاب إلى أقصى ما يمكن في الدفاع عن مصالحها والتصدّي للحضور الإسرائيلي المباشر، بحيث كادت هذه المواقف أن تشعل حرب ناقلات النفط والمضائق بين الطرفين.
لم تتأخّر “حماس” في تحويل المواجهات من ساحات الأقصى بين القوات الإسرائيلية والمصلّين والمقدسيّين، إلى حرب مفتوحة بين غزّة وإسرائيل. ويبدو أنّ حدود هذه الحرب وأفقها قد سبق تحديدهما في اجتماع دمشق
كان مستوى التعاطي الإيراني مع المتغيّر السياسي، الذي أوصل الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، مشابهاً لذاك الذي تعاطت به القيادتان الإسرائيلية والعربية. مع فارق أنّ وصول بايدن فتح أمام القيادة الإيرانية إمكان الرهان على الخروج من الوضع، الذي أنتجته الإدارة السابقة بقيادة دونالد ترامب، ومن الحصار الاقتصادي والسياسي، الذي كاد أن يخنق آخر الانفاس التي تمدّ النظام بأوكسجين الاستمرار.
كان كلام وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف التصعيدي بوجه إدارة بايدن، ووصفه لها بأنّها نسخة معدّلة عن إدارة ترامب وتعمل بالأسلوب نفسه وتتبع السياسات والاستراتيجيات ذاتها في التعامل مع إيران، تعبيراً واضحاً ومباشراً عن حجم التحدّي الذي استشعرته طهران من جراء تمسّك بايدن، ولو ببعض الإجراءات التي ورثها عن سلفه الجمهوري.
لعلّ الكلام الذي قالته وندي تشرمين، أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس أثناء جلسة استماع قبل الموافقة على تولّيها منصب مساعدة وزير الخارجية في الإدارة الجديدة مطلع شهر آذار الماضي، كان جرس إنذار للقيادة الإيرانية حول ما ينتظرها من تطوّرات إقليمية، وما قد تذهب إليه الإدارة الأميركية الجديدة في محاولتها تكريس معادلات شرق أوسطية على حساب دور إيران ونفوذها وموقعها، مستفيدةً من المستجدّات التي شهدتها هذه المنطقة في عام 2020، وخصوصاً على صعيد اتفاق السلام الإبراهيمي.
تحدّثت تشرمن في جلسة الاستماع تلك عن نيّة بايدن العودة إلى الاتفاق النووي، إلا أنّ هذه العودة لن تكون إلى الاتفاق الموقّع عام 2015. واعتبرت أنّ الفترة الفاصلة بين توقيع الاتفاق والوضع الحالي، والتي تقارب ست سنوات، قد شهدت تطوّرات وأحداثاً كبيرة على صعيد الشرق الأوسط ومنطقة غرب آسيا، وأنّ معادلات جديدة نشأت خلال هذه الفترة يُفترض أن تكون مؤثّرة في أيّ تفاهمات بين واشنطن وإيران.
أهمّ هذه المتغيّرات هو ما حصل على صعيد الأوضاع الجيوسياسية الناتجة عن التطبيع بين أربع دول عربية وإسرائيل. وهو أمر إيجابي في المعادلات الأميركية في المنطقة، حسب تعبيرها، لأنّه ساهم في إحداث هذا التغيير الجيوسياسي، ويستدعي التفكير بشكل مختلف لأنّ معطيات جديدة باتت مطروحة على طاولة التفاوض.
اعتبر الجانب الإيراني هذه القراءة، التي عبّرت عنها تشرمن المنخرطة في المفاوضات النووية منذ عهد أوباما، قراءة واقعية في الأسس والمبادئ. فقد رصدت طهران هذه التحوّلات الإقليمية، ورأت أنّه من الطبيعي أن تحدث تغيّرات في السياسة الأميركية لفرض المزيد من الضغوط والتنازلات عليها. فما كان منها إلّا أن سارعت إلى التحرّك لتحويل المتغيّر الجيوسياسي الإقليمي لمصلحتها، وقطع الطريق على هذه الإدارة، ومعها إسرائيل، من أجل فرض حقائق ووقائع تتعارض مع مصالحها. خصوصاً أنّ إيران استطاعت، خلال المدّة الزمنية ما بين اتفاق 2015 وانتخاب بايدن، أن تكرّس وتراكم قدرات عسكرية ووقائع سياسية في الإقليم تحت مسمّى “محور المقاومة”. ومن هذه الوقائع وضع الأزمة السورية قريباً من الحلّ بانتظار انطلاق قطار الحوار السياسي. الأمر الذي عزّز من قدرة وتأثير الحليف الإيراني الأساسي في لبنان، حزب الله، وحوّله إلى رقم صعب في المعادلة الإقليمية، بالإضافة إلى الدور الذي تلعبه جماعة الحوثي اليمنيّة في سياق تعزيز المعادلة الجيوسياسية الإيرانية.
التطوّر الفلسطيني استطاع إجبار حكومة تل أبيب على إلغاء المناورات العسكرية الواسعة وغير المسبوقة، التي كان من المفترض أن تنطلق الأحد ما قبل الماضي (9 أيّار 2021) على طول الحدود اللبنانية السورية، وأن تحاكي حرباً شاملة على الجبهتين مع لبنان وغزّة
لكن ماذا حصل بعد نحو شهرين على قراءة وندي تشرمن في مجلس الشيوخ، وبالتزامن مع نداءات الاستغاثة، التي ارتفعت من مكبّرات الصوت في المسجد الأقصى، الذي حاصرته القوات الإسرائيلية وفي داخله نحو 500 من المصلّين الفلسطينيين؟
وصل إلى العاصمة السورية دمشق وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في زيارة غير مجدولة لم تقتصر اهتماماتها على تطوّرات المسار الحواري الذي انطلق بين السعودية وسوريا، وبين السعودية وإيران. بل كانت محطته الرئيسة هي اللقاء الذي جمعه مع الفصائل الفلسطينية عشية التحذير الذي أطلقه قائد قوات القسّام في حركة حماس “أبو عبيدة”، وهدّد فيه بالتصعيد.
وفعلاً لم تتأخّر “حماس” في تحويل المواجهات من ساحات الأقصى بين القوات الإسرائيلية والمصلّين والمقدسيّين، إلى حرب مفتوحة بين غزّة وإسرائيل. ويبدو أنّ حدود هذه الحرب وأفقها قد سبق تحديدهما في اجتماع دمشق، الذي دخل عليه العامل العراقي من خلال اللقاء بين رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” اسماعيل هنية وبين الأمين العام لـ”حركة الجهاد” زياد نخالة والأمين العام لـ”حركة النجباء” أكرم الكعبي.
تُعتبر “حركة النجباء” العراقية أحد أهمّ الفصائل التي تعمل في الفلك الإيراني. وسبق لها أن نشرت عناصر لها على طول الشريط الحدودي في الجولان السوري. وأعاد الكعبي في ذاك اللقاء تأكيد استعداد جماعته للتعاون العسكري والأمني مع فصائل المقاومة الفلسطينية، ووضع كل قدرات حركته في خدمة الهدف، الذي يجمعه مع هذه الفصائل، وهو قتال إسرائيل.
إقرأ أيضاً: محضر اللقاء الأميركيّ الإسرائيليّ: هل عطّلت غزّة الحرب على إيران؟
يبدو أنّ إشعال جبهة غزة، وتمظهر الدور الإيراني من خلال لقاءات دمشق، والتأثير الذي تملكه إيران على الفصائل الفلسطينية، قد تحوّلت إلى حرب إرادات جيوسياسية بين إيران وإسرائيل. خصوصاً أنّ التطوّر الفلسطيني استطاع إجبار حكومة تل أبيب على إلغاء المناورات العسكرية الواسعة وغير المسبوقة، التي كان من المفترض أن تنطلق الأحد ما قبل الماضي (9 أيّار 2021) على طول الحدود اللبنانية السورية، وأن تحاكي حرباً شاملة على الجبهتين مع لبنان وغزّة. وهي المناورات التي دفعت حزب الله في لبنان إلى إعلان استنفار عامّ لقواته العسكرية تحسّباً من تطوّر هذه المناورات إلى حرب إسرائيلية خاطفة.