تُعتبر ألمانيا القوّة الاقتصادية الكبرى في الاتحاد الأوروبي. لكنّها قوة تعيش على طاقة مستوردة من روسيا، تمرّ في أنابيب عبر أوكرانيا، التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، ثمّ أصبحت جزءاً من الاتحاد الأوروبي، وتستعدّ للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
هذا التحوّل الأوكرانيّ أدّى إلى صراع دوليّ عليها، فانفجرت حرب أهلية دفعت الشرق الأوكراني، الذي يتحدث بالروسية، ويدين بالولاء للكرملين، إلى الانشقاق عن الدولة. حاولت روسيا الضغط على أوكرانيا لمنعها من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وذهبت في ضغطها إلى حدّ وقف ضخّ الغاز في الأنبوب الأوكراني الذي يمدّ ألمانيا بالطاقة لحرمان أوكرانيا من الحصول على عائدات المرور. فأصاب هذا الإجراء ألمانيا ودولاً أوروبية أخرى بالضرر. فوُلِد مشروع خط أنابيب يمرّ عبر بحر الشمال من روسيا إلى ألمانيا مباشرة. نجحت التجربة الروسية – الألمانية. غير أنّ تعميم التجربة على أوروبا كان يتطلّب مدّ خط ثانٍ، وهنا تدخّل الأميركي لوقف هذا المشروع. فماذا يعني سياسياً واقتصادياً الاعتماد الأوروبي على الطاقة المستوردة من روسيا؟
في الواقع تعلّمت أوروبا درساً قاسياً جداً من الرئيس الأميركي السابق ترامب، الذي وصف أوروبا بـ”الخصم”، وفرض ضرائب على صادراتها، وقلّل من قيمة مساهمات الولايات المتحدة في ميزانية حلف شمال الأطلسي، مهدداّ بالانسحاب منه
آنئذٍ طلبت الولايات المتحدة وقف تنفيذ مشروع خطّ الأنابيب الثاني، وهي لم تكن متحمّسة للخطّ الأول، وهدّدت باستخدام سلاح العقوبات ضد الدولة أو الشركة التي تتعاون مع روسيا في هذا المشروع. فأدّى ذلك إلى ارتباك الاتحاد الأوروبي. فهو ضدّ السياسة الروسية إلى حدّ أنّه فرض عقوبات على موسكو، لكنّه في الوقت عينه يحتاج إلى الطاقة المستوردة منها. وعلى الرغم من هذا التضارب في التوجّهات، ائتلفت خمس شركات أوروبية للطاقة مع مؤسسة غاز بروم الروسية، في تحالفٍ – كونسورتيوم – غايته مدّ الخط الثاني من الأنابيب، الذي تبلغ تكاليفه 11 مليار دولار، ويبلغ طوله 1230 كيلومتراً. وقد بدأ العمل على إنشائه منذ سنوات، ولم يبقَ لاكتمال المشروع سوى 150 كيلومتراً فقط. فما كان من الولايات المتّحدة إلاّ أن تدخّلت وقرّرت فرض عقوبات على الشركات المتعاونة، سواء كانت مصرفية أو هندسية أو بترولية..
حينئذ راوح الموقف الأوروبي بين عدم تفجير أزمة مع الولايات المتحدة في مطلع عهد الرئيس جو بايدن، الذي طوى صفحة نغلاق فرضها خلَفُه الرئيس دونالد ترامب، وبين عدم تقديم دعم معنويّ للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي تتّهمه أوروبا وأميركا معاً بقمع الحريات العامّة في بلاده.
لكنّ أوروبا ما تزال تحتاج إلى الطاقة، وهنا بيت القصيد.
يعكس موقف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل هذا الموقف المحرج. فهي تدين السياسة الروسية من جهة، وتتمسّك بمشروع خطّ الأنابيب من جهة ثانية. فقد أكّدت تمسّكها بالمشروع لحاجة الاقتصاد الألماني (والأوروبي) إلى الطاقة، ووافقت على العقوبات بسبب اعتقال الناشط السياسي الروسي ألكسي نافالني المعارض للرئيس بوتين. أمّا العلاقة بين الأمرين فلا ترى سيدة ألمانيا الأولى حاجة إلى اصطناعها.
في الواقع تعلّمت أوروبا درساً قاسياً جداً من الرئيس الأميركي السابق ترامب، الذي وصف أوروبا بـ”الخصم”، وفرض ضرائب على صادراتها، وقلّل من قيمة مساهمات الولايات المتحدة في ميزانية حلف شمال الأطلسي، مهدداّ بالانسحاب منه. ففقدت أوروبا، وألمانيا في الدرجة الأولى، الثقة – المطلقة – بالحليف الأميركي، ووجدت نفسها في وضع المضطر إلى “حكّ جلده بظفره”. فكان الانفتاح الاقتصادي الأوروبي على الصين، وكان القرار بتكوين قوة عسكرية أوروبية مشتركة.
إقرأ أيضاً: حكاية أردوغان وغولن: “حروب الأخوة الأعداء”
تغيّرت المعادلة بعد سقوط ترامب وانكفاء سياسته، حتى إنّ الرئيس جو بايدن، وخلافاً لقرار الرئيس السابق ترامب بسحب القوات الأميركية من ألمانيا، قرّر زيادة عدد هذه القوات بإضافة 500 عنصر جديد. إلا أنّ الشكّ في مستقبل العلاقات الأوروبية الأميركية له ما يبرّره. فماذا بعد بايدن؟ ومن يضمن أن لا يعود إلى البيت الأبيض ترامب من جديد، أو ترامب جديد؟
لقد لُدغت أوروبا من الجحر السياسي الأميركي مرّة.. وهي لا تريد أن تعرّض نفسها للّدغ مرة ثانية. تعرف أوروبا أنّ العلاج الروسي، غازاً ونفطاً، غير مضمون. وتعرف أنّه قد تكون له عواقب ومضاعفات مؤلمة وفقاً لمتغيّرات المعادلات السياسية، لكنّ هذا العلاج – حتى الآن على الأقلّ – كافٍ للإبقاء على دوران عجلة الاقتصاد، وللإبقاء على بيوت الأوروبيّين مضاءة ودافئة.