تبدأ القصة عام 1947، عام الانقسام الكبير، الذي حوّل القارّة الهندية بعد تحرّرها من الاحتلال البريطاني إلى دولتين: الهند وباكستان. في ذلك الوقت ارتفعت أصوات تتمتّع بالحكمة وبُعْد النظر بين الهندوس والمسلمين تعارض هذا التقسيم. لكنّ المخطط كان عصيّاً على التعطيل.
كان المهاتما غاندي من معارضي التقسيم، فقُتِل اغتيالاً. ومن أجل تمرير التقسيم إسلامياً، أطلق الشيخ أبو الأعلى المودودي نظرية “الدين والدولة”. في تلك النظرية يقول إن المسلم هو وليّ أمر نفسه، والدولة هي وليّة أمر المسلمين، لذلك لا يحكم المسلمَ إلّا حاكمٌ مسلم.
وصلت هذه النظرية إلى مصر. تبنّاها سيد قطب وعمل على فلسفتها وتطويرها بحيث أصبحت الأساس الذي قامت عليه حركة الإخوان المسلمين، ولم تزل حتّى الآن.
وصلت النظرية أيضاً إلى تركيا، إلا أنّ الحركة العلمانية التي أطلقها أتاتورك كانت لا تزال قوية. وكان الجيش التركي يحميها ويدافع عنها. ولذلك لم تجد سوى طرق خلفيّة وملتوية في مناطق الأناضول الداخلية.
أدّى فشل حركة الإخوان في مصر على يد الرئيس جمال عبد الناصر وإعدام سيد قطب، إلى لجم قوّة اندفاع العمل بهذه النظرية في الدول الإسلامية الأخرى، بما في ذلك في تركيا. ولكن النظرية بقيت جمرة تحت الرماد.
أزاح الرماد تعثّر انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبيّ، فبدت تركيا وكأنّها أدارت ظهرها لمكّة في الوقت الذي لم تقبل بروكسل أن تمدّ يدها إليها.
أدّى هذا الواقع إلى تعزيز المشاعر الإسلامية المكبوتة، فكانت حركة فتح الله غولن.
كان المهاتما غاندي من معارضي التقسيم، فقُتِل اغتيالاً. ومن أجل تمرير التقسيم إسلامياً، أطلق الشيخ أبو الأعلى المودوي نظرية “الدين والدولة”. في تلك النظرية يقول إن المسلم هو وليّ أمر نفسه، والدولة هي وليّة أمر المسلمين، لذلك لا يحكم المسلمَ إلّا حاكمٌ مسلم
لم تكن هذه الحركة دينية صوفية (مثل العديد من الحركات الأخرى في الأناضول)، لكنّها كانت حركة عصريّة بكل معنى الكلمة، ووصلت تنظيماتها إلى الميادين الصناعية والتجارية والزراعية، ثم التعليمية والدينية.
أنشأ غولن سلسلة من المصانع المحليّة لتصنيع المواد الزراعية وتسويقها في الداخل التركي الواسع، ثم في خارجه، فشجع الزراعة من خلال التصنيع الزراعي. وتمكّن غولن من إنشاء خلايا مرتبطة بحركته الإسلامية وتمويلها من خلال مصالحها الزراعية والصناعية والتجارية المتداخلة والمتكاملة.
وفّرت هذه السياسة دخلاً كبيراً للحركة، فأنشأت المدارس في الأرياف والمدن. ومع نجاحها أسّست المعاهد والجامعات التي حقّقت نجاحات كبيرة. وتوجّهت في الوقت ذاته نحو رجال الدين. لم يكن يُسمح لهؤلاء بحرية الحركة أو الكلمة. فالدولة علمانية. حتى زيّ المشيخة كان ممنوعاً. لم تعتبر حركة غولن ذلك عائقاً، فعملت على تأهيل “العلماء” ثقافياً وتربوياً.. ثم أطلقتهم في المدن وفي قرى الأرياف. فتكامل الدور الاجتماعي – الاقتصادي مع الدور الاجتماعي – الديني، مؤدّياً إلى تضخّم الحركة ماديّاً ومعنويّاً، فانطلقت إلى ما وراء الحدود التركية تقدم خدماتها ومساعداتها إلى مجتمعات إسلامية محتاجة، سواء في الدول العربية أو غيرها من الدول في إفريقيا وآسيا. ودخلت من خلال ذلك إلى العالمية، معتمدةً على تنظيم هرميّ إداريّ على درجة عالية من التنظيم.
وصلت الحركة إلى لبنان. إذ جاء وفد منها الى “جمعيّة المقاصد الإسلامية” يعرض خدماته في إطار تعاون علمي – أكاديمي مشترك. كنتُ أحد اثنين تولّيا التفاوض مع الوفد. واتفقنا على التعاون من حيث المبدأ من دون أن نعرف في ذلك الوقت خلفيّة الحركة وأهدافها السياسية بعيدة المدى. إلا أنّ ما أذكره هو أنّ العرض كان مشجّعاً. لكن تأخّر التنفيذ، وطال التأخير حتّى بدأت الحركة تواجه تحدّيات داخلية، وسرعان ما بدأ وضعها ينقلب رأساً على عقب.
بدت هذه الحركة من خلال هيمنتها على عدد كبير من المدارس والجامعات والمؤسّسات الدينية وكأنّها تحوّلت إلى سلطة داخل السلطة. وعلى الرغم من الخلفية الدينية المحافظة للرئيس رجب طيّب أردوغان، فقد وجد فيها حركة منافسة له في عقر دار قوّته الانتخابية: الأناضول. وهكذا بدأ أردوغان عملية قصّ أظفار الحركة والتضييِّق عليها. كان يعرف جيداً أنّها أصبحت قوّة انتخابية كبيرة، ليس فقط داخل تركيا، بل في دول المهجر في أوروبا أيضاً. فكان أئمّة المساجد في هذه الدول ينتمون إلى حركة غولن، ومن خرّيجي المعاهد الدينية التي تشرف عليها.
أمّا المفاجأة الكبرى وغير المنتظرة التي أصابت الرئيس أردوغان كالصاعقة، فتتمثّل في تغلغل الحركة في الجيش التركي، المعروف بأنّه الحصن الحصين للعلمانية فضلاً عن المفاصل الإدارية. وكاد أردوغان أن يدفع الثمن بسلطته وروحه خلال عملية الانقلاب العسكري ضدّه، الذي فشل بما يشبه المعجزة. وعلى الرغم من مرور سنوات على محاولة الانقلاب تلك، لا تزال التحقيقات الأمنية والقضائية تكتشف المزيد من الخلايا داخل الجيش وفي الإدارات الرسمية، حتّى في المؤسسات الإعلامية الخاصّة والعامّة. الأمر الذي نزل على الرئيس التركي كالصاعقة.
أنشأ غولن سلسلة من المصانع المحليّة لتصنيع المواد الزراعية وتسويقها في الداخل التركي الواسع، ثم في خارجه، فشجع الزراعة من خلال التصنيع الزراعي. وتمكّن غولن من إنشاء خلايا مرتبطة بحركته الإسلامية وتمويلها من خلال مصالحها الزراعية والصناعية والتجارية المتداخلة والمتكاملة
وتبقى علامة الاستفهام الكبرى: لماذا وفّرت واشنطن لغولن– ولم تزل – الحماية، مضحّية بعلاقاتها مع الرئيس التركي، شريكها في حلف شمال الأطلسي؟ وهل هذه الحماية ورفض الاستجابة لطلب تسليم غولن إلى القضاء التركيّ لمحاكمته هما السبب – أو على الأقلّ من الأسباب – التي دفعت بالرئيس أردوغان نحو موسكو – بوتين؟
إقرأ أيضاً: اقتصاد تركيا المُنهك.. يهدّد أردوغان
تتردّد نظريات عن اعتقاد الولايات المتحدة بأنّ أفضل طريقة لمحاربة الإسلام المتشدّد تكون بالإسلام المنفتح. وتفسّر هذه النظرية وصول حركة “الإخوان المسلمين” إلى السلطة في مصر ثمّ الانقلاب عليها، وربما تفسّر أيضاً محاولة الانقلاب في تركيا ولجوء غولن إلى الولايات المتحدة بعد فشل المحاولة، حيث لا يزال حتّى اليوم.
ما كان باستطاعة أردوغان مقاومة حركة غولن بأبعادها الإسلامية مستعيناً بالشروط الأوروبية لقبول انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. فقاوم الحركة بالإسلام، فاتّسعت رقعة ابتعاده عن أوروبا، لكنّه تمكّن من أن يضع رِجلاً في الحقل الإسلاميّ ورِجلاً في “البور” العلمانيّ. فبدا وكأنّه لم يرضِ هذا ولا ذاك. أمّا حركة غولن التي صرف مؤسّسها سنوات عديدة من عمره وجهده وماله في تكوينها، فقد أصبحت أثراً بعد عين… أو هكذا تبدو الأمور من بعيد جداً..