هو الشاعر. وصورته عندي تتخفّف من كلّ الألقاب الأخرى. يحضر كشاعر، في عِمّة شاعر، وعلى رأسه عمامة الشعر، وفي يده سيجارة يمجّها كمتمرّس في حرق التبغ والمراحل. يحضر الشاعر، لأنّ رجل الدين، على سماحته وتسامحه، بقي غريباً. ولأنّ السياسي كان يغيب ويحضر، يقترب ويبتعد. أمّا الشاعر الذي كانه محمد حسن الأمين، فكان أمضى وأشدّ التماعاً و”فتكاً”، في غمده، من كلّ سيوف الرجل المحارب المسلولة، اللامعة القاطعة. حتّى إنّني أعرف أنّ بين أشدّ خصومه في السياسة، من يحفظون شعره عن ظهر قلب.
أتذكّره، وكنت مراهقاً، وقد حضر ليبارك لأبي افتتاح محلٍّ للحلويات في القرية، فيستدعيني لأقرأ عليه ما نُمي إليه أنّني أكتبه على أوراق لفّ الحلويات والفواتير في المحلّ، فتقدّمتُ خجولاً، مرتبكاً لأقف أمامه، بكامل هندامه الديني، وبدأت أقرأ، متلعثماً، الخواطر التي كتبتها، وهو يستمع ويهزّ رأسه، ثم حينما انتهيت لمحت على محيّاه ابتسامة مريحة، قبل أن يعدّل جِلسته ويقول لي: “بعد فعل القول همزة أنّ تُكسر”. كنت قد قرأتها في مواضع مفتوحةً، فقبض على الهمزات وأعادها إلى مواضعها، وجعلني كلّما سمعت همزة “أنّ” مفتوحةً بعد فعل القول، أتذكّر صوته وأصحّح.
كان تصويباً بدا لي أبعد من انضباط قواعدي. فهمت أنّه تشجيع على الشعر، على التعبير الحرّ، ضمن قواعد تضيف إلى الشعر تمكُّناً، فيجمع اللغة الأنيقة المنتبهة إلى قوامها، مع حرّية في الأداء وانطلاق في الأفكار.
أتذكّره، وكنت مراهقاً، وقد حضر ليبارك لأبي افتتاح محلٍّ للحلويات في القرية، فيستدعيني لأقرأ عليه ما نُمي إليه أنّني أكتبه على أوراق لفّ الحلويات والفواتير في المحلّ، فتقدّمتُ خجولاً، مرتبكاً لأقف أمامه، بكامل هندامه الديني، وبدأت أقرأ، متلعثماً، الخواطر التي كتبتها، وهو يستمع ويهزّ رأسه
لهذا تطغى صورة الشاعر عندي على باقي شخصيات محمد حسن الأمين. في موته هذا، الذي كنهاية قصيدة كتبها بنفسه، يتقدّم الشاعر لينظم النهاية، على قافية الحياة. والراحل، العارف بأدوات الخلود، دعّم بقاءه قبل الغياب. حفر عميقاً ليترك الأثر الذي لا يُمحى ولا يُدفن، وكتب رثاءه لنفسه، حينما رثى صديقه هاني فحص، فحفر، مفسّراً موته، على رخام رفيق دربه، كما لو أنّه يستعدّ لموته، بكامل وعيه الحياتي، مسلّماً بحتمية الخسارة، لكنّه في الآن عينه متجهّزاً لانكساره الأخير بكامل كبريائه.
في دفنه، و”المطر محاصر بين بين”، بدا أنّ الشاعر رتّب مثواه الأخير كما ترتّب أمٌّ سرير طفلها. نام هناك، في حقل اختاره بعناية بنفسه، في ظلّ شجرة كينا وارفة وطويلة، كحزن الماغوط على بدر شاكر السيّاب. وحفر على الرخام: “الموت ليس انحناءً، إنّه سفرٌ”. هذا بيت القصيد. الشعر في مواجهة الموت. في تغيير وجهته ووظيفته. ليس انكساراً ولا انحناءً، بل سفر. وقد أعدّ له العدّة مزوّداً بعكّاز الشعر ليتّكئ عليه، فلا ينكسر ولا يقع ولا ينحني. يسافر على متنه، غير آبه بما تستطيعه قدماه. فهو قادر على التحليق بعيداً في “موجة سحر”.
هكذا، بالشعر، والشعر وحده، لا بالدين ولا بالسياسة، يواجه محمد حسن الأمين الموت، فيبتكر، ويتغلّب عليه بالدهشة ويرتحل على متنه، كما لو كان بساط ريح يحمله إلى بلاد العجائب.
إقرأ أيضاً: عباس بيضون: ظلّ يبتسم في نعيهِ…
في دفنه، حينما كانوا يهمّون بمواراته في الثرى، تنبّه الحاضرون إلى دمٍ يخرج من صدر السيّد، في المكان الذي كانت تنغرس فيه أنابيب التنفّس التي كان يغالبها في المستشفى. أعادوا الجثّة، عبر القرية، لتنظيف الدم وتغيير الكفن، بحسب الأصول الدينية قبل الدفن. خيّل إليّ أنّ الشاعر الذي في السيّد لاعب الجميع بإخراج الدم، ليقوم بجولة أخيرة في القرية قبل أن يعود إلى القبر. ثم أهالوا فوق قامته التراب، فـ”راح الضوء ينقشها فوق الخلود فيجلوها وينكسر”.
ينكسر الضوء في حضرة جسد السيّد الشاعر الشجاع القؤول كأبي فراس الحمداني، “ولو أنّ السيوف جواب”، كما تنكسر الهمزة في”أنّ” بعد فعل القول.