حفلت الأيام الأربعة الماضية بعددٍ من الأحداث والحوادث كان أبرزها ولا شكّ انفجار الخلاف بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري بشأن تشكيل حكومة ” المهمّة” التي صارت حكومة “هموم”. معظم اللبنانيين الذين تابعوا مسار تشكيل الحكومة العتيدة عبر ستة أشهرٍ ونيّف قبلوا من سعد الحريري صبره الطويل على تجاهل رئيس الجمهورية للدستور وللأعراف، بل وتعدّى ذلك في طريقة التعامل معه إلى الإهانات الشخصيّة!
بعد هذا كلّه ، وليس في هذه الشهور الستة فقط، بل في العهد الميمون كلّه طوال أربع سنوات: هل كانت المشكلة دستوريةً بالفعل، أي في صلاحيات رئيس الجمهورية بعامة، وأخيراً في صلاحياته بتشكيل الحكومات. الدستور يتحدث عن التشكيل والإصدار. والتشكيل من صلاحيات رئيس الحكومة المكلَّف، ومن كلَّفه ليس رئيس الجمهورية، بل أكثرية مجلس النواب، وهو سيعود إليه بعد التشكيل للحصول على الثقة أو عدمها، ومجلس النواب يحاسب الحكومة ويستطيع إسقاطها. أمّا الإصدار الذي يعني صدور مرسوم جمهوري بالتشكيل فيتمّ بين الرئيسين: عون والحريري، ويصدر عن رئاسة الجمهورية بالتوقيعين.
وما دام الأمر بهذا الوضوح، فلماذا هذا الخصام الطويل؟ في الأساس عون ضد دستور الطائف، وتغيّر موقفه شكلاً بعد انتخابه للرئاسة، ونجاحه في تغيير قانون الانتخابات، والاستيلاء على إدارة الدولة، وعلى أنصاف الحكومات أو غالبيّتها. كيف تغيّر؟ قال له مستشاروه: تخرج على الدستور بالممارسة دائماً ليصبح ذلك مع الوقت أمراً واقعاً فيسهُلُ تغيير الدستورعندما يصبح ذلك متاحاً! وتشكيل حكومة سعد الحريري الرابعة (والثالثة في هذا العهد) وما أثاره ويثيره عون وصهره عبارة عن اختبار من عشرات الاختبارات وممارسة من عشرات الممارسات!
بعد هذا كلّه ، وليس في هذه الشهور الستة فقط، بل في العهد الميمون كله طوال أربع سنوات: هل كانت المشكلة دستوريةً بالفعل، أي في صلاحيات رئيس الجمهورية بعامة، وأخيراً في صلاحياته بتشكيل الحكومات
ما سرُّ قوة عونٍ وصهره؟ لا تقولوا لنا الجمهور المسيحي، فبعد انفجار المرفأ في 4 آب 2020، ما عاد لدى باسيل جمهورٌ من أيّ نوع يمكن الاستناد إليه. ولكي لا نُطيل التساؤل أو تساؤل العارف أو تجاهُلهُ، فلنتأمّل من قريب في خطاب زعيم حزب الله الأخير، والذي يكاد يوافق رئيس الجمهورية في كل شيء؛ لكنْ على خلفياتٍ أُخرى تماماً: هو ونتيجة الفشل الداخلي الذي شمل بالمسؤولية عنه: رئيس الحكومة المكلَّف، وقائد الجيش، وحاكم المصرف المركزي، وشباب الثورة الذين يسدّون الطرقات، وقبلهم وبعدهم البطريرك الماروني – يطلب الذهاب باتجاه الصين وإيران لإنقاذ لبنان. فإذا كان الجنرال عون يبحث عن صلاحياته عند رئاسة الحكومة؛ فإنّ زعيم الحزب مُلحٌّ في ضرورة الانتماء إلى محورٍ آخر، وقد سارع جبران باسيل إلى إزجاء التحية له على كلّ مقاربته!
يستطيع الرئيس أن يخطئ في الفهم، ويستطيع جبران باسيل أن يظل طامحاً للرئاسة، لكنّ هذا كله لا يمكن أن يؤدي إلى هذا الانهيار الهائل، وهذا التأزّم المعقّد في تشكيل الحكومة، التي هي مهمة وطنية وسياسية في كل دول العالم، لولا أنّ وراء الأكمة ما وراءها وقد انهدمت الأكمة بعد خطاب الزعيم!
ولا يزال هناك لبنانيون يتجاوزون مطامع الباسيليّين، ويتجاوزون قيادة الزعيم وإرادته تغيير هوية لبنان وانتمائه، ويذهبون إلى أنّ الأزمة هي أزمة نظام!
ليست الأزمة أزمةً دستورية، ولا أزمة نظام، بل هي أزمةٌ ناجمةٌ عن استيلاء الحزب المسلَّح على الدولة، وتعاوُن الباسيليّين لمصالحهم الخاصة معه.
ولذلك، ولأنّ هذا صار واضحاً وضوح الشمس، ما عاد من حقّ رؤساء الحكومة السابقين، وفي بيانين متتاليين خلال أربعة أيام، الإصرار على أنّ الأزمة ناجمةٌ عن مخالفة رئيس الجمهورية للدستور. طيب! هل يستطيع رئيس الجمهورية الصمود على فرض صحّة هذه الفرضية الضيقة، إذا كان معظم السياسيين والمسيحيون قبل المسلمين، يخالفونه، ويطالبونه بالواجب البديهي: السماح بتشكيل حكومة قادرة لإيقاف الانهيار؟!
ما سرُّ قوة عونٍ وصهره؟ لا تقولوا لنا الجمهور المسيحي، فبعد انفجار المرفأ في 4 آب 2020، ما عاد لدى باسيل جمهورٌ من أي نوع يمكن الاستناد إليه
بالطبع لا. ومن هذا الواقع انطلق البطريرك الماروني للدعوة إلى تحرير الشرعية (لا تسكتوا..)، وإلى الحياد، وإلى المؤتمر الدولي من أجل لبنان. الرئيس نجيب ميقاتي في زيارته للبطريرك رأى في الحياد مزيداً من الانقسام، واعتبر المؤتمر الدولي تقسيمياً أيضاً، وأراد الاكتفاء بالنأي بالنفس(2011) وبالمبادرة الفرنسية! وهو يعرف قبل غيره أنّ الحزب المسلَّح أول من خرج على النأي بالنفس، ونصر الله في خطابه الأخير تنكّر للمبادرة الفرنسية.
أنا فهمتُ تواضُعَ بيانات الرؤساء، وتنكُّر الرئيس ميقاتي، باعتبار أنّ ذلك كلّه تجنُّبٌ للصدام مع الزعيم وحزبه وسلاحه. لكنّ البطريرك أراد ذلك أيضاً، إنما بمبادرةٍ تفتح أُفقاً. فالفرنسيون ليسوا جهةً لبنانية، بل هم جزء من المجتمع الدولي يا دولة الرئيس ميقاتي، وهم سيدعون لمؤتمر دولي ثالث ورابع وخامس وسيذهبون معنا لصندوق النقد وغيره إذا قمنا بالـ Home Work المطلوب من كل الذين يريدون وطناً ودولة. والحياد (وقد أضاف له البطريرك: الإيجابي) هو مقتضى الطائف ووثيقة الوفاق الوطني، ولا أفهم كيف سيمنعنا من تحرير أرضنا من العدو الإسرائيلي.
فلنوجِّه انتباه واهتمام الرؤساء الثلاثة والجمهور اللبناني إلى “مبادرة” السفير السعودي الذي زار قصر بعبدا يوم الثلاثاء في 2021/3/23 بطلبٍ من رئيس الجمهورية، رغم إشكالية التوقيت.
أنا فهمتُ تواضُع بيانات الرؤساء، وتنكُّر الرئيس ميقاتي، باعتبار ذلك كلّه تجنُّبٌ للصدام مع الزعيم وحزبه وسلاحه
وقال السفير وليد بخاري من أمام القصر كلاماً مسؤولاً لا يتعمد الإثارة، ولا يتخفّى وراء التعبيرات الدبلوماسية. قال باستقلال لبنان الناجم عن نضالات اللبنانيين. وقال إنّ المملكة تتضامَنُ دائماً مع لبنان دونما تدخلٍ في شؤونه الداخلية. وقال بضرورة تشكيل حكومةٍ قادرةٍ وفاعلةٍ تكسب ثقة اللبنانيين والعالم بإجراء إصلاحات جذرية، والذهاب إلى صندوق النقد الدولي. ومضى من ذلك إلى الثوابت: الطائف الذي يصون وحدة لبنان وسلمه الأهلي، والقرارات العربية والدولية التي ذكر منها الـ 1559 (لإخلاء لبنان من السلاح ما عدا سلاح الجيش الوطني) والـ 1701 (للحماية من إسرائيل ومن السلاح غير الرسمي في الجنوب)، والـ 1680 (الذي يطلب ترسيم الحدود مع سورية).
إقرأ أيضاً: وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ.. فمن العار أن تموتَ جبانا
مطالب السفير بخاري هي مطالب البطريرك الماروني وكل الوطنيين اللبنانيين. وذِكْره لها من القصر الجمهوري يُظهر حرص المملكة على سلام لبنان واستقراره وقد شاركت في صناعتهما في الطائف، وفي عمليات إعادة الإعمار، وفي تأثيرها في المجتمع الدولي.
فإلى متى نكون مثل النعامة التي تخبِّئ رأسها في الرمال. لا بد من المواجهة، وأولى خطواتها تحالف وطني كبير يلتفُّ من حول البطريرك ومبادرته قبل فوات الأوان على الوطن والدولة وعيش اللبنانيين وأمنهم.