درعا: مهد الثورة السوريّة وسيرتها

مدة القراءة 7 د

عقدٌ كاملٌ مرَّ على تلك الجملة التي قيل بأنَّ أطفالاً خطُّوها على جدران مدرستهم في مدينة درعا: “إجاك الدور يا دكتور”.

لكنَّ “الدور” لم يأتِ على بشّار الأسد لوحده، بل أتى على سوريا كلِّها.

لقد كان “دور” بشّار بين الطغاة، و”دور” سوريا بين البلاد العربيّة التي دخلت زمن الثورات بعدما قرَّر التونسيّ محمّد بوعزيزي أن يفتح بعربة خضرواته البوَّابةَ التي اعتقد الجميع، حتى ذلك الوقت، بأنّها غير موجودة.

كانت درعا بوَّابة الثورة السوريّة، وكانت أيضاً سيرتها. كانت أشبه ما تكون بقصَّة الثورة نفسها، بانتصاراتها ونكساتها، بأمجادها وخيباتها، بتحرُّرها من المستبدّ ووقوعها فريسة المستعمر، بيأسها وأملها.

في الذكرى العاشرة للثورة، وتحت عنوان “درعا مهد الثورة بعد عشر سنوات: جمر تحت الرماد”، آثرت صحيفة “واشنطن بوست” (بقلم: سارة الديب وباسم مروّة) أن تعيد رواية الحكاية من المهد، الذي هو درعا، وعلى لسان بعضٍ من أبنائها الذين ضحّوا بحياتهم العاديّة من أجل المشاركة في التظاهرات، ثمَّ دفعوا الثمن تعذيباً في المعتقلات ونفياً في مختلف أصقاع الدنيا.

 

يوم البداية: 18 آذار

كانت أجهزة الأسد الأمنيَّة على أهبة الاستعداد والتوتُّر بعدما اندلعت الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر. حُذِّر ناشطون معروفون في درعا من العواقب الوخيمة لأيّ محاولة للتحرُّك. لكنّ مثل هذه الأساليب الترهيبيّة، بعد انكسار حاجز الخوف، لم تعُد تُجدي نفعاً.

لقد كان “دور” بشّار بين الطغاة، و”دور” سوريا بين البلاد العربيّة التي دخلت زمن الثورات بعدما قرَّر التونسيّ محمّد بوعزيزي أن يفتح بعربة خضرواته البوَّابةَ التي اعتقد الجميع، حتى ذلك الوقت، بأنّها غير موجودة

بعد ظهور الشعارات المناهضة للنظام على جدران المدارس، اعتُقِل الأطفال وعُذِّبوا، انفجر الغضب الشعبيّ الذي سيرسم مساراً جديداً للمنطقة بأسرها.

انطلق المتظاهرون من المساجد، وواجهتهم سيّارات الأمن. وخارج المسجد العمريّ الكبير في المدينة، فتحت قوات الأمن النار الحيّ على الناس، فقُتِل اثنان وجُرِح ما لا يقلّ عن 20 آخرين.

إنّه اليوم الثامن عشر من آذار 2011، اليوم الأكثر مفصليّة في تاريخ سوريا الحديث. إنّه اليوم الذي مات فيه الذين سيفتتحون بموتهم “ما سيصبح لاحقاً عقداً من الموت”، بحسب تعبير الصحيفة.

أحمد المسالمة، وهو صاحب محلّ للإلكترونيات، كان في المسجد العمريّ في ذلك اليوم. كان يساعد في تنظيم الاحتجاجات، وجلب الناس من القرى المجاورة، ثمَّ راح يساعد في نقل الجرحى.

لقد اعتقد أحمد بأنّ تغيُّرَ الزمن كفيلٌ بردع بشّار عن ارتكاب جريمة أبيه في حماة سنة 1982. اعتقد – خاطئاً – أنّ القوّات الأمنيّة ستستخدم فقط الغاز المسيّل للدموع والرصاص المطاطيّ، لكنّ النتيجة كانت موت ثمانية متظاهرين في ذلك اليوم.

صرَّح أحمد لوكالة “أسوشيتد برس”: “كنّا نظنُّ بأنّ العالم أصبح قرية صغيرة، مع وسائل التواصل الاجتماعيّ والمحطّات الفضائيّة… ولم نكن نتوقّع أبداً أن يصل مستوى القتل والوحشيّة وكره الناس إلى هذه المستويات”.

 

تحذيرات الجيل الأكبر سنّاً

“إذا كنت تعتقد بأنّ هذا النظام سيسقط بصرخة أو بملايين الصرخات، فأنت لا تعرف شيئاً عنه”. هذا ما قاله عضو في مجلس الشعب من درعا لابنه الطالب الجامعيّ نضال العماري، الذي شاهد من دمشق، وعلى شاشة التلفزيون، ما حصل من أحداث في مدينته درعا.

كان العماري يومذاك في الثامنة عشرة من عمره، ولم يكن والدُه سعيداً بحماسته للمشاركة في التظاهرات: “النظام مستعدّ لقلب كلّ حجر في هذا البلد من أجل البقاء في السلطة”، هذا ما قاله له.

لقد اعتقد أحمد بأنّ تغيُّرَ الزمن كفيلٌ بردع بشّار عن ارتكاب جريمة أبيه في حماة سنة 1982. اعتقد – خاطئاً – أنّ القوّات الأمنيّة ستستخدم فقط الغاز المسيّل للدموع والرصاص المطاطيّ، لكنّ النتيجة كانت موت ثمانية متظاهرين في ذلك اليوم

لم يستمع العماري إلى نصيحة والده، وعوضاً عن ذلك استقلّ سيّارة، وتوجّه إلى أسفل الطريق السريع، ووصل إلى منزله في درعا للانضمام إلى التظاهرات.

لقد شعر هذا الشابّ بأنّ حديث والده يصدر عن جيل أكبر سنّاً مسكونٍ بالخوف الذي زرعه حافظ الأسد سنة 1982.

لن يرتعب الصغار، هكذا حدَّث نفسه.

 

الاعتقال والمغادرة

حمل العماري – الذي كان يتقن بعض الإنكليزيّة – كاميراه، وأعدَّ جهازَيْ كمبيوتر، مُنشئاً مع أصدقائه مركزاً إعلاميّاً، كان واحداً من بين أوائل المراكز الإعلاميّة التي انتشرت في سوريا، لنقل أخبار الثورة إلى العالم.

صوَّر التظاهرات والاعتداءات الدمويّة التي نفَّذتها قوّات الأمن. وكانت المرَّة الأولى التي يرى فيها جثثاً. وبدلاً من شعوره بالخوف، حصل ما هو عكس ذلك: انكسر حاجز الخوف إلى درجة تحوُّلِه إلى “تهوُّر”.

اعتُقِل العماري مع زملائه بعد اقتحام الجيش لمدينة درعا، في 25 نيسان 2011، وتعرَّضوا لمختلف أنواع التعذيب التي كان من بينها إجبار السجناء على تعذيب بعضهم بعضاً! لقد أُجبر المعتقلون على ضرب بعضهم بعضاً وإدخال الأجسام المعدنيّة في مؤخّرات زملائهم!

لم يستمع العماري إلى نصيحة والده، وعوضاً عن ذلك استقلّ سيّارة، وتوجّه إلى أسفل الطريق السريع، ووصل إلى منزله في درعا للانضمام إلى التظاهرات

وبعد أربعة أشهر من الاعتقال والتعذيب، خرج العماري بعدما كاد أن يفقد بصره. أُلقيَ به في الشارع، وعاد إلى البيت ليُمضيَ شهراً كاملاً في منزل أسرته ليتعافى ممّا أصابه.

في ذلك الوقت بدأت جماعات المعارضة المسلّحة بالظهور ردَّاً على حملات القمع. حمل العماري كاميراه مرَّةً أخرى ليغطّيَ سير المعارك، ولكن باسمه الحقيقيّ.

الصفعة، التي تلقَّاها من والده الغاضب، جاءت بعد احتجاز أربعة من أبناء عمومته في دمشق. أمره والده بالمغادرة، فغادر إلى لبنان ثمَّ إلى تركيا، فاليونان ضمن موجة اللاجئين السوريّين الهائلة التي عبرت، بمئات الآلاف، في قوارب صغيرة سنة 2015.

 

الترتيب الروسيّ والمشروع الإيرانيّ

في آب 2018، اجتاحت قوَّات الأسد المدعومة من روسيا محافظةَ درعا. ثمَّ خضعت هذه المحافظة الجنوبيّة لترتيبٍ فريدٍ، بوساطة روسيَّة استجابت للرغبة الإسرائيليّة بعدم تمركز الميليشيات الإيرانيّة في درعا القريبة من إسرائيل، وللرغبة الأردنيّة في إبقاء المعابر الحدوديّة مفتوحةً.

عادت مؤسَّسات النظام إلى درعا، لكنّ القوّات الحكوميّة بقيت خارجها. أمّا المقاتلون الذين وافقوا على “المصالحة” فقد انضمّ جزءٌ كبيرٌ منهم إلى الفيلق الخامس، الذي هو من الناحية النظريّة جزءٌ من الجيش السوري، ولكنّه من الناحية العمليّة تحت الإشراف الروسيّ المباشر.

في بعض المناطق في درعا عاد النظام إلى السيطرة التامّة، حيث انتشر جيش الأسد والميليشيات المدعومة من إيران.

منذ حزيران 2019، ووفقاً للمرصد السوريّ لحقوق الإنسان، خلَّفت سلسلةٌ من عمليّات الاغتيال، نفَّذها الثوار غالباً، أكثر من 600 قتيل يتوزَّعون على القوّات الحكوميّة وميليشيات إيران وثوَّار سابقين وقَّعوا على “المصالحة” ورؤساء بلديّات وموظّفين موالين للنظام.

تقوم الميليشيات المدعومة من إيران، في هذه الأثناء، بتجنيد الشبّان من خلال اجتذابهم براتب ثابت. وتقول الصحيفة التي نستعرض تقريرها هنا، إنّ العائلات الموالية للنظام أو المقاتلين المدعومين من إيران يستقرّون في قرى في الجنوب، وإنّ التجّار المرتبطين بالأسد وإيران استغلّوا حالة العَوَز في درعا لشراء الأراضي. ويُقال أنّ الميليشيات الإيرانيّة تشجّع المسلمين السُنّة المحلّيّين على اعتناق المذهب الشيعيّ.

إقرأ أيضاً: عشرية الثورة اليتيمة: الظلامية هزمت العالم الحرّ

“الموت ولا المذلَّة”

بعد مضيّ عقد كامل على انطلاق الثورة السوريّة، لا تزال درعا تخرج في تظاهرات حاشدة ضدّ الأسد وإيران.

قبل أيّام، ومن أمام الجامع العُمَريّ الذي شهد انطلاقة الثورة، استُعيدت السيرة الأولى تحت عنوان “ثورة حقّ والحقّ لا يموت”.

شعارات البدايات كانت حاضرةً، وحارَّةً كما لو أنّها ابنة اليوم، وخصوصاً ذلك الشعار الذي لخَّص روح أبناء تلك المنطقة، بل ولخَّص روح الثورة نفسها: “الموت ولا المذلَّة”.

مواضيع ذات صلة

هل تملأ مصر فراغ التّسليم والتّسلّم؟

يترنّح المسار التفاوضي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية تحت وطأة الضغوط العسكرية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية في عدوانها الوحشي بحقّ لبنان. في الأثناء، يواظب الموفد…

برّي ينتظر جواب هوكستين خلال 48 ساعة

تحت وقع النيران المشتعلة أعرب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب عن موافقته على أن يستكمل الرئيس جو بايدن مسعاه للوصول إلى اتّفاق لوقف إطلاق النار…

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…