سيبقى جرح سوريا واحدًا من أكثر الجراح الغائرة في خاصرة التاريخ، وستبقى أحداث السنوات العشر، بكل صورها، وكل عذاباتها، وكل مراحلها، وكل ذكرياتها، وصمة عار على جبين العالم، وبلورة شديدة الاكتناز لسياسات المصالح التي طالما داست فوق الأخلاق وفوق القيم، ثم عبرت برشاقة يندى لها الجبين فوق جثث الأطفال المخنوقة بغاز السارين، وفوق الحنجرة المدوّية التي سرقها المجرمون وشذاذ الآفاق من ابراهيم القاشوش، وفوق الجسد المُدمى لحمزة الخطيب، وهو الطفل الذي كُسرت رقبته وتحطم قفصه الصدري وقُطع عضوه التناسلي قبل أن يبلغ الثالثة عشر من عمره.
عشر سنوات مرت، ولا تمر، على الثورة اليتيمة في سوريا. مدنٌ وأحياء وقرى ساوت الأرض وصارت نظير الركام. بعضها اختفى تمامًا عن الخرائط وعن محركات البحث العملاقة. وبعضها الآخر دُك على نحو ممنهج بالمدافع والطائرات والبراميل المتفجرة، في واحدة من أفظع سياسات التدمير والتغيير الجغرافي والديمغرافي في العصر الحديث. حيث تجاوزت التكلفة التقريبة لإعادة إعمار سوريا نصف ترليون دولار، فيما تتحدث أرقام الأمم المتحدة عن أكثر من 387 الف قتيل، وعن تشريد أكثر من ستة ملايين سوري داخل البلاد، وتهجير 5.5 ملايين إلى مختلف أصقاع الأرض، ناهيك طبعًا عن مئات آلاف القتلى الذين لم يدخلوا في بيانات المتوفين، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي أشار إلى مقتل 100 الف شخص في سجون النظام بسبب التعذيب، بينما لا يزال 100 ألف آخرون رهن الاعتقال، ولا يزال مصير نحو 200 ألف شخص مجهولًا.
صحيفة نيويورك تايمز نقلت عن بشار الاسد عام 2016 خلال لقائه صحافيين غربيين إشارته إلى أن النسيج الاجتماعي في سوريا بات افضل مما كان عليه قبل الحرب، ما يعني عمليًا أن عشرة ملايين لاجىء كان يجب ان يصبحوا خارج النسيج الاجتماعي السوري حتى يصير منسجمًا، وهنا تمامًا حضر السؤال الأدق والأهم والأخطر: هل كانت الحرب في سوريا نتيجة أم أساسًا؟ بمعنى آخر: هل قامت هذه الحرب المدمرة بهدف قمع الثورة العارمة التي انفجرت بوجه النظام، أم لتغيير وجه سوريا ونسيجها وجغرافيتها السياسية والاجتماعية والشعبية؟ لا شك أن في كلام بشار الأسد أجابة مباشرة هذا السؤال: النسيج الاجتماعي بات أفضل مما كان عليه عشية الثورة.
عشر سنوات مرت، ولا تمر، على الثورة اليتيمة في سوريا. مدنٌ وأحياء وقرى ساوت الأرض وصارت نظير الركام. بعضها اختفى تمامًا عن الخرائط وعن محركات البحث العملاقة
في تشرين الاول من العام 2011، أي قبل ظهور تنظيم داعش بنحو ثلاث سنوات، قال بشار الأسد إن من شأن تدخل الغرب في بلاده أن يحدث زلزالًا يحرق منطقة الشرق الاوسط برمتها، وأضاف في مقابلة أجرتها معه صحيفة ديلي تلغراف اللندنية: إن سوريا تعتبر الآن محور المنطقة، إنها خط الصدع في الشرق الأوسط، ومن يتلاعب بها سيتسبب في حدوث زلزال. هل تريدون رؤية افغانستان ثانية هنا؟ أو عشرات الافغانستانات؟
في أواخر العام نفسه، تم الإعلان عن تشكيل جبهة النصرة لأهل الشام، وهي فرع من فروع تنظيم القاعدة في سوريا بقيادة أبو محمد الجولاني، ثم في الثامن من نيسان عام 2013 أصدر أبا بكر البغدادي بيانًا صوتيًا أعلن فيه أن جبهة النصرة قد أُسست ومُولت ودُعمت من قبل تنظيم دولة العراق الإسلامية، وأن الجماعتان ستندمجان تحت اسم الدولة الإسلامية في العراق والشام.
لا حاجة للتعمق أكثر في المعطيات والتفاصيل، ولا حاجة أيضًا لتوثيق العلاقات والتقاطعات الهائلة التي تجمع النظام السوري والإيراني والحكومة العراقية “المالكية” آنذاك بالتنظيمات المتشددة، وهذا بات معروفًا وموثقًا ومؤكدًا، لكن تكفي الإشارة إليه في تمام العقد الأول للثورة السورية، للتذكير بأن ثمة من طرح معادلة إحراق المنطقة برمتها وتحويل سوريا إلى افغانستان ثانية، إذا ما استمر الإصرار على محاولة إسقاطه، وهذا ما حدث بالتمام والكمال.
بطبيعة الحال، ساهم تلكؤ الغرب على نحو مؤثر ومباشر في ترسيخ النظام السوري واستمراريته، خصوصًا عقب إسقاط الخطوط الحمر التي وضعها الرئيس الأميركي باراك أوباما، في ظل دعم عسكري حازم وحاسم من إيران وروسيا. يضاف إلى ذلك فشل المعارضة السورية على اختلاف مكوناتها بتوحيد صفوفها وتقديم بديل جدي عن النظام، وهذا الفشل يستند بشكل أساسي ومحوري إلى تجاذبات وتباينات اقليمية ودولية، وإلى ارتطام المصالح والأولويات بين الدول المساندة للثورة، مقابل صلابة لا بأس بها للمحور المناصر للأسد، ورشاقة موصوفة للنظام في استثمار عامل الوقت، وهي الرشاقة التي طالما لازمته منذ بداية السبعينات.
لا حاجة للتعمق أكثر في المعطيات والتفاصيل، ولا حاجة أيضًا لتوثيق العلاقات والتقاطعات الهائلة التي تجمع النظام السوري والإيراني والحكومة العراقية “المالكية” آنذاك بالتنظيمات المتشددة، وهذا بات معروفًا وموثقًا ومؤكدًا
اليوم، يسيطر نظام الأسد على نحو ثلثي مساحة البلاد وقد صارت ركامًا ورمادًا وشبه دولة مُفلسة ومعزولة ومدمرة. وفيما يتهيأ بشار الأسد للفوز بولاية رئاسية رابعة، يعاني الشعب السوري من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، لا سيما مع نضوب موارد الدولة وانسحاق البنى التحتية والانهيار الكامل للاقتصاد، معطوفة على عقوبات دولية وشح في العملة ونقص شديد في الخدمات والسلع وزيادة أرقام التضخم والبطالة، وسط انهيار للعملة المحلية أمام العملات الأجنبية، حيث تواصل الليرة السورية نزيف الخسائر الذي بدأته أمام الدولار منذ بداية الأزمة، وقد هوت إلى مستويات قياسية وتاريخية وغير مسبوقة، من 50 ليرة سورية للدولار الواحد، إلى 3450 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد، لحظة إعداد هذا التقرير.
كاد الرأي الغالب يحسم باستحالة عودة النظام السوري إلى المنظومة العربية والدولية، لكن التحركات المستجدة إقليميًا ودوليًا تشي، ولو شكليًا، بخلاف ذلك، لا سيما بعد عودة الأدبيات التقليدية التي أثبتت فشلها الهائل الذريع، والتي تتمحور حول سردية استعادة سوريا من الحضن الإيراني إلى الحضن العربي، ويكفي هنا أن نلقي نظرة سريعة على ما قاله الأمير بندر بن سلطان لموقع الـ”اندبندنت” في هذا الصدد، وما فعله الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، حيث أن كل مساعيه ارتطمت وقتذاك برئيس أرعن تحوّل إلى مجرد أداة إيرانية، بخلاف والده الذي استخدم العلاقة مع ايران لتحيسن شروطه وحضوره وموقعه.
إقرأ أيضاً: عقد على الثورة: هل ينظر بشار في عيون مؤيّديه؟
وفي هذا الصدد، وعلى سجية الخلاصة المؤلمة، يقول باحثٌ سوري تحفظ عن كشف اسمه لوكالة الصحافة الفرنسية: “من المستحيل اليوم أن يكون النظام السوري مقبولاً من النظام الدولي، ومن المستحيل كذلك أن يبقى خارجه. هذه المعادلة المستحيلة ستبقينا لسنوات طويلة في مرحلة اللا خيار، واللا حل واللا استقرار، مع استمرار الاستنزاف البطيء الذي يدفع ثمنه الشعب السوري”، ويضيف: “لا شيء يمنع الأسد من البقاء في مكانه والفوز بولاية رئاسية جديدة، فيما كل الناشطين الذين تجرؤوا يومًا على الخروج إلى الشارع للمطالبة بسقوط النظام، قتلوا أو فروا من البلاد أو تشردوا داخلها أو تم زجهم في السجون والمعتقلات”.
الثابت حتى الآن، وبعد عشر سنوات على واحدة من أجمل وأعنف وأعقد الثورات في التاريخ، أن العالم الحر بأسره قد خسر خسارة مدوية في أوضح معركة أخلاقية وإنسانية في العصر الحديث، وأن النظام السوري لا يزال قائمًا وموجودًا ومسيطرًا بمساندة حلفائه ومليشاتهم ومرتزقتهم، وأن رئيس هذا النظام يتجهز لتجديد ولايته ولو فوق بحر من الدماء والجثث والدموع، فيما يُختصر مشروعه المستقبلي لمعالجة الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بمخطط مدهش، بدأه بمطالبة وسائل الإعلام السورية التوقف عن عرض برامج الطبخ، لكي لا تُزعج السوريين بصور طعام بعيدة المنال، فيما سارعت وزارة الصحة إلى استكمال هذه التفاهة بمسابقات وتحديات هزيلة وساخرة. التوقف عن تناول السكّر لمدة اسبوع مثلاً، نظرًا لمضاره الصحية الهائلة، بينما الحقيقة أنه مفقود أساسًا من الأسواق، ولا قدرة للنظام على تأمينه وتأمين غيره من السلع الأساسية.