مصرف لبنان يعيد اختراع المنصّة: 10.000 بدلاً من 3900

مدة القراءة 7 د

في العاشر من حزيران الفائت أعلن مصرف لبنان اعتزامه إطلاق منصّة “صيرفة” للتداول بالنقد، وأطلقها بالفعل بعد ذلك بأسبوعين. كان الوعد حينها بأن تقدّم المنصّة سعراً شفّافاً للدولار وتقضي على المضاربات، وتهمّش السوق السوداء. فما الجديد في إعلانِ المعلن ببيان من القصر الجمهوريّ الجمعة؟

في الشكل بدا إعلان مصرف لبنان للآليّة الجديدة لضخّ الدولارات في السوق أشبه بهديّة سياسيّة للعهد تسلّمها أحد مستشاري رئيس الجمهوريّة وأذاعها مستشار آخر بنَفَسٍ دعائي يرفع سقف التوقّعات، كما لو أنّ في الأمر حلّاً سحريّاً يحلّ مشكلة الدولار.

الأمر وما فيه، بمبسّطِ الكلام، أنّ مصرف لبنان سيقدّم الدولارات لمستوردي الموادّ الغذائيّة بسعر السوق، أي بنحو عشرة آلاف ليرة للدولار، بدلاً من 3900 ليرة. وهذا يسري أيضاً على 15% من كلفة استيراد المحروقات، بدلاً من 10% سابقاً، وهو سيؤدّي عملياً إلى إطلاق موجة تضخم جديدة واستفحال الفقر المدقع لشرائح كانت حتّى وقت قريب تعدّ ضمن الطبقة المتوسطة.

بدا إعلان مصرف لبنان للآليّة الجديدة لضخّ الدولارات في السوق أشبه بهديّة سياسيّة للعهد تسلّمها أحد مستشاري رئيس الجمهوريّة وأذاعها مستشار آخر بنَفَسٍ دعائي يرفع سقف التوقّعات، كما لو أنّ في الأمر حلّاً سحريّاً يحلّ مشكلة الدولار

لنضع التداعيات الاجتماعيّة جانباً لبعض الوقت، ولنبحث في الأساس النقدي لإعلان مصرف لبنان.

لنعد إلى التعميم الأساسيّ رقم 5 لمؤسّسات الصرافة بتاريخ 10 حزيران 2020. ألزم ذلك التعميم جميع مؤسسات الصرافة بالاشتراك في منصّة “صيرفة” و”عدم إجراء أيّة عمليّة شراء أو بيع للدولار” إلا عبرها ووفق “السعر اليومي المعتمد من قبلها للتداول بالدولار”. وألزمها أيضاً بإدخال معلومات عن كل عمليّة تداول بالنقد الأجنبيّ تشمل: تاريخ العملية وقيمتها، تعريف العميل وفئته واسمه ورقم هاتفه، وصورة عن هويّته أو السجل التجاريّ إذا كان شركة.

وفي 26 حزيران، أعلن مصرف لبنان انطلاق العمل بالمنصّة رسميّاً، وتبرّأ من “الأسعار التي تُتَداول عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والتي تُسمّى أسعارالسوق السوداء”، مشيراً إلى أنّ “حجم المبالغ المتداولة عبرها ضئيل”.

انتهى الأمر بالمنصة إلى أن تكون سعرَ صرفٍ رسميّاً رديفاً لا يعكس حقيقة العرض والطلب، بل يعكس السعر الذي يوفر به مصرف لبنان الدولارات لاستيراد سلّة من الموادّ الغذائيّة المدعومة، وسعر “الهيركت” الذي يسمح وفقه للمودعين في البنوك أن يحصلوا على جزء من ودائعهم الدولاريّة بالليرة.  في المقابل، بقيت السوق الموازية على حالها، وظلّت الملجأ الأخير للمستوردين لتوفير الدولارات التي يوفّرها مصرف لبنان.

ما هو حجم الدولارات التي يحصل عليها المستوردون من السوق الموازية؟ ليس من رقمٍ رسميّ، لكن يمكن التوصّل إلى تقدير معقول من خلال احتساب الفارق بين صافي الاستيراد من جهة، وقيمة الدولارات التي يوفّرها مصرف لبنان للمستوردين من جهة أخرى.

وفق تقرير لوزارة الاقتصاد، يراوح حجم الدعم المقدّم من مصرف لبنان بين 6.5 إلى سبعة مليارات دولار سنوياً، أيْ بمعدّل 540 إلى 580 مليون دولار شهرياً، بينما لا تتجاوز قيمة كل ما استورده لبنان في الأشهر العشرة الأولى من العام الماضي تسعة مليارات دولار، بمعدّل 900 مليون دولار شهرياً، وهذا رقم يقلّ عن نصف وتيرة الاستيراد في العام 2019، وهو يشير إلى مدى تراجع الاستهلاك المحليّ.

وفي المقابل، قاربت الصادرات خلال الفترة نفسها ثلاثة مليارات دولار، بمعدل 300 مليون دولار شهرياً، وعلى الرغم من أنّ الدولارات العائدة من الاستيراد لا يُعاد ضخّها كاملةً في السوق، وفّر مصرف لبنان خلال 2020 النسبة الكبرى من العملة الصعبة المطلوبة للاستيراد، ولم يكن التجّار بحاجة إلى أكثر من 100 إلى 150 مليون دولار شهرياً من موارد أخرى، وهذا رقم من السهل توفيره إذا أخذنا في الاعتبار الموارد الأخرى للدولارات، لا سيما تحويلات المغتربين لعائلاتهم التي لا تقلّ عن 600 مليون دولار شهرياً. لكن المشكلة تكمن في غياب الثقة، إذ لا يمكن لهذه المبالغ التي تأتي عبر شركات الأموال أو نقداً في حقائب المسافرين أن تدخل إلى النظام الماليّ الرسميّ إلا في حدود ما يحتاج إليه الناس للاستهلاك، فلا أحد يثق بأنها ستحافظ على قيمتها. حتى الدولارات التي تدخل إلى أدراج الصرّافين لا تنتقل بسهولة إلى المستوردين، فهؤلاء يتقنون استغلال الفرص. وإلى يمينهم نَبَت تجّار العملة كالفطريات السامة، وأخذوا ينافسون المستوردين على ما يتوافر في السوق من عملة صعبة.

وفق تقرير لوزارة الاقتصاد، يراوح حجم الدعم المقدّم من مصرف لبنان بين 6.5 إلى سبعة مليارات دولار سنوياً، أيْ بمعدّل 540 إلى 580 مليون دولار شهرياً، بينما لا تتجاوز قيمة كل ما استورده لبنان في الأشهر العشرة الأولى من العام الماضي تسعة مليارات دولار

ولذلك يقع العبء كلّه على الاحتياطات الباقية لدى المصرف المركزيّ، فيما يستمر النافذون بتهريب رساميلهم على مرأى من الجميع.

بفضل هذه المعادلة وأسباب أخرى لا مجال للخوض فيها هنا، استنفد مصرف لبنان احتياطاته بسرعة قياسية، ولم يعد قادراً على ضخّ الدولارات بالوتيرة نفسها. والخوف يتملّكه الآن من حدوث انفجار نقديّ هائل بعد تقليص الدعم. فبكلّ بساطة، عندما يتقلّص دعم البنزين من 90% إلى 85%، وعندما تتقلّص فاتورة الدعم بمجملها من 550 مليون دولار شهرياً إلى 250 مليون دولار، سيُضاف إلى الطلب في سوق الصرّافين 300 مليون دولار، فيما حجمها لا يزيد على 250 إلى 270 مليون دولار شهرياً. وهذا كفيل بخروج سعر صرف الدولار عن السيطرة تماماً، وتحكّم الصرّافين برقبة التجّار والمواطنين.

يأتي هنا مصرف لبنان ليعيد اختراع المنصّة نفسها، فيعد بتحويلها من هيكل صُوَريّ إلى سوق حقيقيّة للنقد، مع إدخال البنوك فيها بشكل أكبر.

الفكرة ببساطة أنّ البنوك حالياً توفّر “صفر دولارات” من صندوقها لعمليات الاستيراد، لأنّ ما من ساذج فيها يمكن أن يبيع الدولار للمستوردين بـ1507 ليرات، أو حتى بـ3900 ليرة، فيما سعره “الحقيقي” في السوق الموازية يفوق 10 آلاف ليرة. لذلك يتحوّل الطلب إلى الصرّافين. بينما لو أتيح للبنك بيع الدولار بعشرة آلاف ليرة فقد يشكل ذلك حافزاً له لتزويد عميله المستورد بحاجته، إمّا من صندوق البنك وإمّا من الدولارات التي يضُخّها مصرف لبنان في المنصّة، وهكذا يتحوّل طلب المستوردين من سوق الصرافة إلى البنوك.

يتطلّب الأمر، تقنيّاً ومحاسَبيّاً، إنشاء وحدات مستقلة داخل البنوك لتداول النقد، بمعزل عن العمليّات المصرفيّة، لئلا يشكّل ذلك اعترافاً بسعر الصرف الحقيقيّ في القوائم المالية.

هذه الآليّة يمكن أن تفيد في امتصاص جزء من الكتلة النقديّة بالليرة، التي ستدخل إلى البنوك ثم يستعيدها مصرف لبنان مقابل ما سيضخّه من دولارات في المنصّة، لأنّه سيستعيد مقابل كل دولار يضخّه من الاحتياطيات عشرة آلاف ليرة من الأموال التي طبعها في الأشهر الماضية.

لكنّ الوجه الآخر للمسألة أنّ السيولة بالليرة التي لدى الناس ستصبح كافية لشراء كمٍّ أقلّ من السلع المستوردة، وهذا يعني أن البلاد مقبلة على مرحلة جديدة من العوَز.

إقرأ أيضاً: دولار سلامة الجديد: سرقة المودعين مجدّداً.. بأمر من “السيّد”؟

يبقى أنّ العامل الحاسم في نجاح الآليّة الجديدة أو فشلها يتمثّل في أمرين:

الأول: هو مدى تشجيعها للناس على ضخّ ما لديهم من دولارات في النظام الماليّ. فإن حدث ذلك يمكن لهذه الدولارات أن تسدّ شيئاً من فجوة العجز التجاري لبضعة أشهر مقبلة، وهذا لن يحدث وستبقى ورطة مصرف لبنان على حالها، لأنه سيبقى المورد الوحيد للدولارات.

والثاني: هو وقف تسريب النافذين أموالهم إلى الخارج، وهذا يتطلّب إقرار قانون الكابيتال كونترول، وإلّا فسيكون ضخّ الدولارات في النظام الماليّ أشبه بنفخ بالون مثقوب.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…