أعضاء المجلس المركزي في مصرف لبنان أمام مسؤوليّة كبيرة غداً الاثنين. هم يعرفون جيّداً أنّهم مؤتمنون على المال العام، خصوصاً على ما بقي من أموال المودعين أو ما يُعرف بـ”الاحتياطي الإلزامي للمصارف” الذي يبدو أنّه سيكون مهدّداً بالتبخّر من خلال منصّة “صيرفة” سيفعّلها مصرف لبنان من داخل المصارف، بعد ضغوط سياسية على “حزب الله”، و”تخريجة” للموضوع تولّاها قصر بعبدا.
صدر أمر التفعيل يوم الجمعة الفائت على شكل بيان أصدره المكتب الإعلاميّ للقصر الجمهوريّ، بعيد اجتماع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مع مستشار رئيس الجمهوريّة للشؤون الماليّة شربل قرداحي. وكان قد سبق البيان “أمر عمليّات”، أعلنه “مرشد الجمهوريّة” حسن نصرالله في خطابه الأخير، وتوجّه فيه إلى أكثر من جهة سياسيّة وإداريّة وشعبيّة، بمن فيهم حاكم مصرف لبنان الذي طالبه استخدام قدراته وعلاقاته من أجل خفض سعر الصرف، وإلاّ لا حاجة لبقائه في سدّة المسؤوليّة.
وعليه سيجتمع المجلس غداً من أجل اتخاذ قرار بتحديد عمل المنصّة وتفعيل العمل بها، من أجل الانخراط في عمل “السوق السوداء” الذي لطالما اعتبره حاكم مصرف لبنان “صغيراً” و”متواضعاً” و”غير مؤثّر”، وخصوصاً “غير نظاميّ ولا يعنيه”.
بات الجميع اليوم يعوّل عليه لخفض سعر صرف الدولار، لكنْ لا أحد من هؤلاء المعوّلين والمتفائلين يخبرنا: كيف سيكون ذلك؟
كيف يمكن خفض سعر صرف من دون ضخّ الدولارات في السوق؟ ومن أين ستأتي هذه الدولارت؟ ما هي آلية تحديد سعر الصرف صباح كلّ يوم؟ هل يعتمد مصرف لبنان سعر السوق السوداء الذي لم يعترف به يوماً من أجل الدخول إليه؟ أم ينطلق من سعر المنصّة الذي يُدفع للمودعين بقيمة 3900 ليرة للدولار الواحد؟
سيجتمع المجلس غداً من أجل اتخاذ قرار بتحديد عمل المنصّة وتفعيل العمل بها، من أجل الانخراط في عمل “السوق السوداء” الذي لطالما اعتبره حاكم مصرف لبنان “صغيراً” و”متواضعاً” و”غير مؤثّر”، وخصوصاً “غير نظاميّ ولا يعنيه”
تبدو أوساط مصرف لبنان مربكةً ولا تملك إجابات شافية عن هذه الأسئلة، في حين يغيب أعضاء المجلس المركزيّ عن السمع. هذا الإرباك والإحراج قد يؤكدان شبهات الضغوط السياسية، ويرجّحان أن يحمل سلامة إلى المجلس صباح يوم الاثنين “أمر العمليات”، ويخبر أعضاء المجلس بضرورة التدخّل في “السوق السوداء” بما بقي لديه من دولارات، وغير بعيد أن يُستعان بأموال الاحتياطي الإلزامي الخاص بالمودعين… وهو أمر أبدى أعضاء في المجلس المركزي معارضتهم له في أكثر من مناسبة.
ولهذا السبب يتحمّل أعضاء هذا المجلس مسؤوليّة الحفاظ على ما بقي من دولارات، وهم مطالبون بعدم الخضوع ولا الموافقة على أمر العمليات الذي خطّه “مرشد الجمهوريّة”. وعليهم أن يتذكّروا ما قالوه هم أنفسهم عن أنّ هذه الأموال “خطّ الدفاع الأخير والمؤهّل لدفع العملية الإصلاحية قُدُماً إذا شُكّلت حكومة صادقة وجدّيّة”… فهل يوافقون على استخدام الدولارات في عملية تمويل جديدة للفساد وفي تعويم السلطة؟
تتغنّى أوساط قصر بعبدا بـ”مرونة غير معهودة” أبداها رياض سلامة خلال الاجتماع مع قرداحي، وتكشف أنّ الطرفين اتّفقا على حصر عمل كلّ المنصّات بمنصّة “الصيرفة” الخاصة بالمركزيّ، ووضعا هدفاً واحداً قوامه “خفض سعر الصرف إلى ما تحت 10 آلاف وربما إلى 7 آلاف ليرة لبنانية لكن بالتدريج”. إذاً وبسحر ساحر بات من كان في نظر “العهد” متقاعساً عن السير في عملية التدقيق الجنائيّ، “مرناً ومتعاوناً” على غير عادة!
ولاحقاً نفت مصادر حاكم البنك المركزي أنّه تعهد لأحد بخفض سعر الصرف إلى 7 آلاف ليرة.
المنصّة ليست جديدة، وهي موجودة لدى الصرّافين على ألواح إلكترونيّة منذ إطلاقها في 26 حزيران 2020. في حينه باعها مصرف لبنان للصرّافين بـ200$ كاش، ورموها في الأدراج لأنّهم لم يستعملوها، لكن بعضهم استفاد من تسعيرتها فقط (3900 ليرة لبنانية)، فكانوا يقصدون مصرف لبنان لشراء الدولار يوم كان “المركزيّ” يملك دولارات، وهي التسعيرة نفسها التي تسبّبت بتوقيف مدير العمليات النقديّة أكرم حمدان بتهمة “التلاعب في سعر الصرف”، وكانت أولى محاولات السلطة لـ”ضبط سعر الصرف” بقوة الأجهزة الأمنيّة والقضائيّة، ثمّ انتقلت لاحقاً إلى الصرّافين، وفشلت أيضاً.
لكن للتحايل على هذه الضغوط السياسيّة، يتلطّى المصرف المركزي اليوم خلف “مبرّرات تقنيّة”، فتكشف مصادره أنّ العمل بهذه المنصة أو التطبيق ستشترك فيه المصارف إلى جانب الصرّافين، بهدف “تجفيف الليرة اللبنانيّة من السوق” وخفض منسوب الكتلة النقديّة الكبير الذي سبّب التضخم، لكنّها تغفل أنّه لا يمكن تجفيف الليرة إلا من خلال استبدالها بأموال أخرى من عملة صعبة.
تتغنّى أوساط قصر بعبدا بـ”مرونة غير معهودة” أبداها رياض سلامة خلال الاجتماع مع قرداحي، وتكشف أنّ الطرفين اتّفقا على حصر عمل كلّ المنصّات بمنصّة “الصيرفة” الخاصة بالمركزيّ
تضيف المصادر أنّ المصارف ستموّل العمليات التجاريّة للمستوردين بالدولار على سعر الصرف الذي ستحدّده المنصّة، أي أنّ المستورد أو التاجر، بدل أن يقصد “السوق السوداء” والمضاربين، سيحصل على الدولارات من المصرف الذي سيأتي بها بدوره من المصرف المركزيّ… وهل يملك المركزي دولارات غير أموال المودعين اليوم؟
عملياً، يمكن القول إنّ منصّة المركزيّ ستكون كـ”من يداوي السرطان بمسكّن البنادول”، وما منسوب التفاؤل الذي ساد في البلد منذ الحديث عنها إلا عملية نشر أوهام، ساهمت بخفض سعر الصرف إلى حدود 10 آلاف ليرة لبنانية قبل أن يرتفع إلى 11 ألفاً. وربّما قد تدفع به نحو المزيد من الهبوط مطلع الأسبوع المقبل، لكن ليس إلى وقت طويل، وخصوصاً في حال لم يتدخّل “المركزيّ” ليضخّ الدولارات في السوق… وأيّ دولارات؟
أضف إلى ذلك أنّ هذه الآلية، إذا التزم “المركزيّ” بها مع الشركات وليس مع الأفراد، ستساهم بتهريب دولارات أكثر وأكثر إلى الخارج، خصوصاً إذا عدنا إلى هويّة المستفيدين من عمليّات الاستيراد المدعومة وإلى انتماءاتهم السياسيّة، وإذا راجعنا التقارير التي تتحدّث عن عمليات التلاعب التي يجريها التجّار والصناعيون، من أجل إبقاء أرباحهم “المدعومة” في الخارج.
إقرأ أيضاً: العهد القوي يضارب بالدولار: والبلد يعيش على أموال المغتربين…
أمّا إن فُتحت أبواب المنصّة للأفراد أيضاً، أي عملاء المصارف والمواطنين العاديّين، فحدّث ولا حرج عن عمليات شفط مضاعفة للدولارات. “وحش السوق السوداء” سيبتلع المصرف المركزيّ وما فيه من دولارات وعملات، لأنّ الأزمة الحقيقيّة ليست في عدد المنصّات ولا في شكل هذه المنصّة أو تلك، وإنما في انعدام ثقة المواطن اللبنانيّ بليرته الوطنيّة، وبسعيه الدائم والدؤوب إلى استبدال كل ما يملك من قدرات نقدية، ولو كانت ألف ليرة، بعملة الدولار.
لن تأتي كلّ هذه الإجراءات بأيّ نفع، والدولار سيستمرّ في التحليق إن لم يوضع البلد على سكّة الإصلاحات السليمة التي تعيدنا إلى خارطة استقطاب رؤوس الأموال، وسبل ذلك واضحة ومعروفة ومكشوفة للجميع إلّا السلطة المستمرّة في لعبة التلطّي خلف أصابعها وفي الهروب إلى الأمام حتى تبثت لنفسها أنّها على حقّ… حتّى لو كان ذلك على حساب نهب أموال المودعين مرّة ثانية.