لم يعد ينفع أيّ شيء في كبح جماح الفوضى. لا فَضح مَن يضغط على مَن، لدفعه إلى الصراخ والاستسلام، ولا الشارع الغاضب، ولا مساعي الوسطاء لحلّ الأزمة الحكومية، ولا مشهد وفد حزب الله في موسكو، ولا كلمة السيد حسن نصرالله المرتقبة، إن كان ثمّة من يراهن على تضمّنها بارقة مسعى ما، ولا الوشوشات عن تقارب سعودي – عوني محتمل، ولا الالتزام الفرنسي بعدم ترك لبنان، ولا صلابة ومرونة وإنتاج جبران باسيل في مجال تصدير “الفرِيكة”… صدقًا، لم يعد ينفع أيّ شيء.
ومع الفوضى لا كتيّب إرشاد مرفق. إنّه السقوط الحرّ. يذهب كل شعب نحو قدَرِه. والتاريخ لاحقًا يرسم الصورة الأشمل، ويَستخلص الدروس من يبقى من الأحياء.
من بداية رحلة الانهيار، حين لم نسأل كيف يتدّبر السياسيون وأصحاب النفوذ وأثرياء البلد المنهوب أمورهم، كانت السقطة الأولى في مسار المحاسبة وتقديم العلاج. هؤلاء تحديدًا لم يتكبّدوا عناء شيء. حتى أنّهم زاركوا اللبنانيين على اللقاح في الخارج أو أمام أنظارهم. “رُسُلهم” وأزلامهم ينتشرون في كل مكان. بالنيابة عنهم يسحبون ما يشتهون من دولارات من المصارف. يتبضّعون من دون النظر إلى الأسعار، يُغرِقون منازلهم بزيت راوول نعمة المخفّض السعر… حين لا تدق الأزمة أبواب المسؤولين عن الفاجعة ولا تلفحهم العتمة، كيف يمكن توقّع أن يأتي الحلّ على أيديهم؟
مع الفوضى لا كتيّب إرشاد مرفق. إنّه السقوط الحرّ. يذهب كل شعب نحو قدَرِه. والتاريخ لاحقًا يرسم الصورة الأشمل، ويَستخلص الدروس من يبقى من الأحياء
من لا يزال يتمسّك بمقود المركب الغارق في القعر، لا يزال يظنّ أنّ إقفال نوافذ المركب قد يقود إلى نجاته! هذا ما يحدث تمامًا مع اللبنانيين. حتّى فرصة القفز من المركب لم تعد مُجدية.
لذلك لا داعيَ للهلع والاسترسال في توقّع الآتي. سنبقى طويلًا متسمّرين في مكاننا بانتظار “أسطول” ما، يلتقط ذبذبات مركب يلفظ مَن بقي منه على قيد الحياة أنفاسه الأخيرة، فيطلق صفّارة النجدة. قد يأتي على شاكلة مؤتمر دولي أو سلالة متحوّرة من طائف آخر، أو وصاية مباشرة نستأهلها بجدارة… الدمّ سيكون المحفّز. هذه نظرية يروّج لها البعض. انهيار السقف فوق الرؤوس فرضية أخرى مطروحة.
ثمّة معادلة محقّة وعادلة لكن غير قابلة على الأرجح للتطبيق طرحها النائب جميل السيد: “فلنذهب كلّنا وليستقِل رئيس الجمهورية أيضًا. الخطر بوجودنا أكبر بكثير من الخطر بغيابنا. فلتكن سلطة انتقالية”. منطق لكن كيف؟. هل ينظّف “الانهيار” نفسه بنفسه؟
“لامبالاة” القيّمين على مصيرنا مريعة، فظيعة، مُستفزّة لكن ليس إلى درجة أن نهدّ الهيكل فوق رؤوسهم. ما يكبّل البؤساء لا يزال أقوى من الرغبة بالدفاع عن النفس والانتقام.
ها هو رياض سلامة المشغول في باريس بمقاضاة من خَدَش صورة أحد أقوى حكّام المصارف المركزية في العالم، يًحضر في جلسة اللجان النيابية “متقمّصًا” نائب من كتلة التنمية والتحرير: “لا دولار واحد في مصرف لبنان لتأمين سلفة 1500 مليار لقطاع الكهرباء”. الرجل الذي حُشِر في زاوية الاتهام بأنّه صنع “أسطورة وهمية” للّيرة، لم تكن يومًا بخير، ها هو ينفض غبار المساءلة عنه.
بماذا تختلف الفوضى مع عتمة أو من دونها؟
في القصر الجمهوري اجتماع برئاسة الرئيس القوي “للبحث في خطط تنفيذ وتطوير مرفأ بيروت”. اجتماع سوريالي وقد أضحى البلد برمّته مرفأً منكوبًا.
ثمّة معادلة محقّة وعادلة لكن غير قابلة على الأرجح للتطبيق طرحها النائب جميل السيد: “فلنذهب كلّنا وليستقِل رئيس الجمهورية أيضًا. الخطر بوجودنا أكبر بكثير من الخطر بغيابنا. فلتكن سلطة انتقالية”. منطق لكن كيف؟. هل ينظّف “الانهيار” نفسه بنفسه؟
في السراي رمى رئيس حكومة تصريف الأعمال القنبلة في أحضان من أزاحه عن موقع القرار وجلس يتفرّج. سعد الحريري “مرتاح”. التكليف بخير ولن تطيح به فتوى جريصاتية، إذًا هو بخير.
وفي عين التينة لا يبخل أستاذ التسويات في رمي المزيد من اقتراحات تسقط قبل أن تصل إلى عتبة بعبدا أو بيت الوسط، ولا تفوته القوطبة على الجنرال الغاضب: “لا حكومة من دون إصلاحات”. هو صاحب المعادلة الشهيرة: “حصّتي أولًا وحبة مسك حين تريدون تقسيم الجبنة”.
إقرأ أيضاً: “مشرقية” باسيل: طريق إسرائيل.. بوجه طريق العرب والفاتيكان
آخر معالم الانهيار تجلّى في الجلسة المكهربة أمس في مجلس النواب. مجرد تأجيل العتمة كلفته 200 مليون دولار بدلًا من مليار دولار ستُسحب من ودائع المواطنين المتبقية باحتياطي مصرف لبنان. عجزٌ فوق عجز يكرّس الدمار الشامل لمقوّمات الدولة. أمّا اقتراح استعادة الأموال المنهوبة، فرُحِّل الى الثلاثاء المقبل. سيكون المشهد كاريكاتوريًّا بعض الشيء. ضحكٌ إلى حدّ البكاء. شعبٌ عارٍ تمامًا وخائف، تديره “طبقة” مُحصّنة بالمليارات والامتيازات، ومنازلها تشعشع بالأضواء وصاحبة اختصاص في فنّ الفساد. هذه الطبقة ستوكل لنفسها مهّمة استعادة ما نُهب وسُرِق من جيوب اللبنانيين.
تخيّلوا. كم هم لطفاء الحكّام بأمر مصيرنا. يُضحِكوننا حتى وسط مراسم موتنا.