لم يحدّد جبران باسيل في مؤتمره الصحافي المخصّص لإعلان الورقة السياسية لتياره ظهر الأحد… أي “14 آذار” أراد التحدّث في ذكراها. هل 14 آذار 1989 يوم أعلن ميشال عون “حرب التحرير”، أم 14 آذار 2005 يوم احتشد أكثر من مليون لبناني في وسط بيروت ردًّا على اغتيال رفيق الحريري، وللمطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان؟
لكنّه فعل ذلك في مقابلته المسائية عبر شاشة “otv”، حين أقام ربطًا مفتعلًا بين التاريخَيْن، إذ اعتبر أنّ نضال تياره الذي بدأ في 14 آذار 1989، هو الذي أدّى إلى انتفاضة 14 آذار 2005.
طبعًا باسيل تكلّم من دون أن يسائله أحد لا في المؤتمر الصحافي الصباحي، ولا حتّى مساءً، ما دامت المقابلة في تلفزيونه ومخصّصة للترويج لسياسته.
لكنّ رواية “حرب التحرير” التي يعتمدها باسيل بوصفها بداية مسيرة تيّاره النضالي، هي رواية مشكّك فيها وقائعيًّا سواء لجهة أسبابها ونتائجها، وهو ما يجعل الربط بينها وبين ذكرى 14 آذار 2005 واضحة الأسباب والنتائج ربطًا انتهازيًّا.
لم يحدّد جبران باسيل في مؤتمره الصحافي المخصّص لإعلان الورقة السياسية لتياره ظهر الأحد… أي “14 آذار” أراد التحدّث في ذكراها
وباختصار، فإنّ تلك الحرب أدّت إلى ترسيخ النفوذ السوري في لبنان لا العكس، وذلك فضلًا عن خسائرها البشرية والمادية، بينما انتفاضة 14 آذار السلميّة أدّت إلى انسحاب القوات السورية من لبنان بعد نحو 40 يومًا على حدوثها. وهذا فارق أساسي بين الحدثين يجعل كلًّا منهما في سياق تاريخي مختلف تمامًا عن الآخر.
إذّاك فإنّ قدرة باسيل على تقديم روايته الخاصة للأحداث بوصفها رواية تاريخية لا جدال فيها، تحيل إلى واقع الحقيقة في الخطاب السياسي وإلى واقع المساءلة في المجال السياسي والاجتماعي. أي أنّ أولوية طيّ صفحة الحرب أسقطت المساءلة التاريخية والسياسية لأحداثها، بحيث أنّ أيًّا من أطرافها يستطيع أن يوظّف أحداثها في الواقع السياسي الحالي على نحو انتهازي ومغلوط.
ولذلك فإنّ السؤال ليس: “لماذا يقول باسيل ما يقول؟”، إنّما: “لماذا يستطيع قول ما يقول من دون أن يرفّ له جفن، وكأنّه يقول حقيقة مطلقة وهو يعرف أنّها ليست كذلك؟”.
عدم خشية باسيل من مساءلته سياسيًّا واعلاميًّا وشعبيًّا عن التوظيف المفرط للأحداث الذي يجيده أكثر من سواه ولا يتورّع عنه البتّة، ينسحب إلى تعمّده قول الشيء ونقيضه في خطاباته. وهذا الأسلوب بات استراتيجيًّا عند باسيل، إذ يحاول من خلاله عدم تفويت أيّ فرصة للنجاة من أزمته، لاسيّما بعد فرض العقوبات الأميركية عليه. وللمفارقة فإنّ باسيل يستفيد من الواقع الانهياري في البلد، فيحاول إخفاء أزمته في ظلال الأزمة العامّة.
زئبقيّة متعمّدة
تبقى التناقضات الأساسية في خطاب باسيل، هي تلك المتصلّة بالسياسة الخارجية للتيار، التي غدت السياسة الخارجية للدولة اللبنانية خصوصًا في ظلّ العهد الحالي. هنا يستقصد باسيل التناقض والغموض واللعب على الكلمات، في محاولة استباقية للتأقلم مع التحوّلات الكبرى المرتقبة في المنطقة. والأنكى أنّه يسمّي هذه الزئبقية “تموضعات انتقالية في السياسة الخارجية”، و”مرونة”، وكأنّ السياسات الخارجية للدول تُبنى بالغموض والتورية، ولا تحدّدها مصالح الدول الاستراتجية سياسيًّا واقتصاديًّا على المدى الطويل.
السؤال ليس: “لماذا يقول باسيل ما يقول؟”، إنّما: “لماذا يستطيع قول ما يقول من دون أن يرفّ له جفن، وكأنّه يقول حقيقة مطلقة وهو يعرف أنّها ليست كذلك؟”
لكنّ هذه الزئبقيّة الباسيليّة ليست بلا سقف، بل هي تتحرّك تحت سقف التحالف مع حزب الله ضمن المحور الإيراني في المنطقة. وهذا ما يعبّر عنه بوضوح مصطلح “المشرقيّة” الذي لا ينفكّ باسيل يستخدمه في خطاباته، والذي لا يعني في الواقع الجيوستراتيجي الإقليمي الراهن، سوى تأبيد موضَعَة لبنان في دائرة النفوذ المباشر لمحور الممانعة. وهو ما عبّر عنه منذ نحو أسبوعين القيادي الرئيسي في التيار الوطني الحر “بيار رفّول”.
والجديد في خطاب باسيل الأحد، هو ربطه بين “المشرقيّة” و”السلام”، باعتبار أنّ “المشرقية هي دعوة مفتوحة للسلام بين الشعوب”، وأنّ “وحده لبنان القوي، أمنًا واقتصادًا، قادر على صنع السلام العادل والدائم والشامل مع إسرائيل”.
إذًا فقد فتح الرجل الدعوة المشرقيّة على أفق السلام مع إسرائيل، لكن ضمن المظلّة الإيرانية لهذه المشرقية. إذ لا يمكن الحديث عن قوّة لبنان الآن، إلّا بربط هذه القوّة بتلك المظلّة أي بسلاح حزب الله. ولذلك فإنّ باسيل ما كان ليقدم على هذه الصياغة الجديدة للمشرقية، لو ظنّ للحظة إنّها ستزعج الحزب، حتّى ولو أعلن (باسيل) عقب فرض العقوبات عليه، أنّه اتفق مع السيّد حسن نصرالله على قول وفعل ما يراه مناسبًا لرفعها.
لكنّ هامش الحرية المُعطى لباسيل ضمن تحالفه مع الحزب، لا يعني قدرته على تجاوز الخطوط الحمر التي يضعها الأخير. واللافت أنّ العبارات المستخدمة من جانب باسيل في الفقرة المخصّصة لـ “السلام” في خطابه، تستهدف التشكيك بمسارات السلام التي انطلقت بين دول عربية وإسرائيل أخيرًا. أي أنّ رئيس التيار الوطني الحر يوحي برغبة ضمن محوره في تأسيس مسار ثانٍ للسلام في المنطقة، يهدف إلى تقويض المسار الذي أنطلق مؤخرًا.
معطًى آخر لا يمكن إغفاله من المشرقيّة الباسيليّة الجديدة، وهو رهان باسيل على الاتفاق الأميركي – الإيراني. وهذا الرهان ليس سياسيًّا فحسب، بل اقتصادي أيضًا، ومفاده أنّ رفع العقوبات عن إيران، سيستتبع رفع الحصار عن لبنان فضلًا عن رفع العقوبات عن باسيل نفسه. وبذلك يُستأنف ضخّ الأموال الخارجية في الاقتصاد اللبناني، وستكون إيران إحدى أبرز الدول التي ستستثمر في لبنان. وهذا كلّه لن يكون بلا تبعات جوهرية على الموقع الاستراتيجي للبنان كبلد، كان تاريخيًّا ذا وجهة غربية وعربية، أمّا الآن فيراد من خلال المشرقية قلب هذه الوجهة وجعلها “شرقية”.
الجديد في خطاب باسيل الأحد، هو ربطه بين “المشرقيّة” و”السلام”، باعتبار أنّ “المشرقية هي دعوة مفتوحة للسلام بين الشعوب”، وأنّ “وحده لبنان القوي، أمنًا واقتصادًا، قادر على صنع السلام العادل والدائم والشامل مع إسرائيل”
لكن هل إيران ستنهض فعلًا بالاقتصاد اللبناني؟ وكيف؟
لقد رأينا عندما رُفعت العقوبات الاقتصادية عن طهران عقب اتفاق 2015، كيف أنّ الجمهورية الإسلامية استثمرت في بنيتها العسكرية فخلقت الميليشيات الإقليمية بالعشرات وغذّتها بالمال والسلاح. كلّ ذلك في إطار مشروعها التوسّعي الذي يحاكي حنينها التاريخي للعودة إلى ضفاف المتوسّط، عبر خلق جسر برّي يمرّ بالعراق فسوريا وصولًا إلى لبنان، كما كان عليه الحال خلال حكم الأمبراطورية الأخمينية (الفارسية) قبل 2500 سنة. إلى جانب كون هذا المشروع يمثّل الضمانة الرئيسية لديمومة النظام في طهران ولـ”تصدير الثورة”.
إقرأ أيضاً: ليس بـ “فرِيكة” باسيل نخرج من الفوضى…!
بالتالي فإنّ هذه المشرقية التي يبشّر بها باسيل في ظلال السطوة الإيرانية، ليست سوى مشروعًا توسّعيًا قتاليًا لتأمين المصالح الاستراتيجية لإيران. وعلى هوامش هذه المصالح مصالح صغيرة خاصة بحلفاء الجمهورية الإسلامية ومن بينهم باسيل. أمّا لبنان فسيكون أسير هذه المصالح التي لم تجلب له حتّى الآن سوى المآسي والانهيار.
كذلك فإنّ هذه المشرقية توضع في وجه توجّهين متلاقيَيْن للمنطقة: توجّه عربي تحديثيّ تقوده السعودية عبر المشاريع العصرية والمستقبلية التي أطلقتها في السنوات الأخيرة، وتوجّه فاتيكاني جسّده البابا في العراق بدعوته للسلام والوحدة وإسكات السلاح.
والأكيد أنّ مصلحة اللبنانيين كلّهم أن يكون لبنان ضمن هذين التوجّهين، بخلاف ما يدعوهم إليه باسيل.