وقف البطريرك مار بشارة بطرس الراعي أمس، متحدثا أمام حشد كبير، أَمَّ مقر البطريركية المارونية في بكركي.. فكان كلامه هادئاً، رصينا، حازما وبسيطاً، لكنه كلام الواثق من نفسه، وجّه خلاله غبطة البطريرك رسائل مباشرة في كل الاتجاهات، ولمن يعنيه الأمر… كلمات وجهها تؤلم في الوقت نفسه، أولئك الذين تمرّدوا على الدولة، فوصفهم صاحب الغبطة بالانقلابيين… وبحق كان كلام البطريرك يوم السبت بطريرك الكلام.
كان صوت “الراعي”، بطريرك لبنان واللبنانيين، وبطريرك انطاكية وسائر المشرق، مدويّاً… خصوصا حين أعلن غبطته “أن لبنان يكون للجميع أو لا يكون”. وحذّر من محاولة انقلابية على مصالح اللبنانيين، كل اللبنانيين، وعلى مستقبلهم ومقدّراتهم وموقعهم في هذا المشرق.
ويبدو أن البطريرك وضع مشروعاً، هو استمرار لمشروع بدأه منذ مدّة، وسار به وهو برأيي لن يتوقف. واعتقد هنا أن صاحب الغبطة حاول من خلال كلمته، التعبير عن مخاوف مسيحية معينة لكن هذه المخاوف تصبّ وبالتأكيد في خانة الوحدة الوطنية وضرورة العيش مع المسلمين في هذا الوطن، في ظلّ دولة عادلة قادرة على بسط سيطرتها على كامل التراب اللبناني، فالدولة الحقيقية برأيه، لا تقبل “شريكاً لها” فلا يجوز ان تكون هناك دولة داخل الدولة، ولا يجوز أن يكون هناك جيش آخر، غير الجيش اللبناني… وأكد الراعي ان تحرير الأرض يجب ان يتبعه تحرير الدولة.
إن ما قاله البطريرك الراعي يوم السبت، له بعد سياسي عميق، ويتعلق باللحظة الراهنة التي يعيشها اللبنانيون. هذا ومن المؤكد أن غبطته، وعلى رغم ثباته على موقفه، لعب دور المطمئن، فمدّ الجسور مع شركاء الوطن.. أما إذا لم تفلح محاولات التفاهم… فالمطالبة بمؤتمر دولي، برعاية الأمم المتحدة أمر ضروري، قبل انهيار لبنان ولات ساعة مندم.
كان صوت “الراعي”، بطريرك لبنان واللبنانيين، وبطريرك انطاكية وسائر المشرق، مدويّاً… خصوصا حين أعلن غبطته “أن لبنان يكون للجميع أو لا يكون”. وحذّر من محاولة انقلابية على مصالح اللبنانيين، كل اللبنانيين، وعلى مستقبلهم ومقدّراتهم وموقعهم في هذا المشرق
ان انفجار مرفأ بيروت – برأي غبطته – بمثابة جرس انذار، فبعض المناطق في لبنان تحوّلت الى حقول متفجرات، لا يعلم أحد متى ستنفجر ومن سيفجّرها…
لقد حان الوقت برأي صاحب الغبطة لسحب الأسلحة والمتفجرات غير الشرعية من الأيدي، ليشعر المواطنون انهم في أمان في بيوتهم… لافتا الى أن الحياد لا يقبل التجزئة في مكوّناته الثلاثة المتكاملة والمترابطة، وليس هو موضوع وفاق، بل يستلزم أولاً وفاقا على الولاء للبنان، قبل الوفاق على الحياد، فمتى حصل الوفاق على الولاء للبنان، يصبح القبول بالحياد أمرا بديهيّاً.
وهنا أؤكد وبكل موضوعية أن كلام البطريرك الراعي، قد عرّى الرئيس ميشال عون وتياره من “ادعائهما” بأنهما ينطقان باسم أغلبية الموارنة وأنهما، وقّعا مع حزب الله اتفاقا في “مار مخايل”، فوّضا الحزب العظيم بالسيطرة الكاملة على مقدرات الدولة… فجاء البطريرك يوم السبت لينتزع من حزب الله هذا التفويض، لأن الناطق الحقيقي، الذي يتحدث باسم المسيحيين هو صاحب الغبطة، وهو ليس على استعداد أبداً لإعطاء هذا التفويض للحزب بعد اليوم أبدا.
الأكيد ان موقف البطريرك يتلاقى مع المبادرة الفرنسية، ويعكس توجهات موقف الفاتيكان، في ظل تنسيق مستمر ودائم… وتكشف مصادر مطّلعة، ان موقف البطريرك الماروني ليس خارجا عن سياق ما قاله البابا، وما وضعه الفرنسيون، لاسيما بعد إسقاط مبادراته، والحلول التي طرحها. وهي نابعة من ضرورة الحفاظ على الدولة والدستور والكيان والمناصفة، ولا يمكن أن تكون حساباته تنطوي على مصلحة سياسية او اعتبارات شخصية…
إلى ذلك يحرز البطريرك تقدما ملحوظا في خطواته السياسية والمبدئية التي يطرحها… باختصار اعتقد ان البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، سحب البساط من تحت قدمي رئيس الجمهورية وصهره “المدلل” جبران باسيل، رئيس التيار الوطني الحر، وقطع عليهما طريق استثمار مذهبي او طائفي في الأزمة القائمة. فالراعي يقول كلاما واضحا في مجالسه، عن تحميل عون وباسيل، مسؤولية ضرب الدولة ومؤسساتها، وجعل مصيرها مهدداً بمؤتمر تأسيسي قد يقضي على المناصفة. لذلك سارع الراعي الى الدعوة لعقد مؤتمر دولي، لحماية لبنان والطائف والمناصفة. وهذا الواقع من شأنه أن يعيد التقارب بين حزب الله والتيار العوني، كي لا يصير الحزب معزولاً تماما في الداخل اللبناني. لكن التيار الوطني الحر سيكون في حالة حرج كبير، في حال تحالفه الجديد مع حزب الله، فيما بكركي والأجواء المسيحية، أصبحت في مكان آخر، مختلف كليّاً.
ان انفجار مرفأ بيروت – برأي غبطته – بمثابة جرس انذار، فبعض المناطق في لبنان تحوّلت الى حقول متفجرات، لا يعلم أحد متى ستنفجر ومن سيفجّرها
لقد حقق صاحب الغبطة – كما اعتقد – إجماعاً لبنانيا استثنائيا في هذه المرحلة، وإجماعاً إقليميا ودوليا، تظهره زيارات السفراء الى الصرح البطريركي. إضافة الى استمرار تقاطر الوفود المؤيدة… وهذه الحركة تجعل حزب الله مهتما في البحث عن أفق، لتحسين علاقاته الداخلية، او إبعاد النظر عن الاهتمام بتدويل الأزمة.
لقد كرّس غبطة البطريرك دعوته الى “تدويل الملف اللبناني” من خلال مطالبته بمؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة، وأرفقها بجملة لاءات قد تؤجج السجالات في لبنان، الذي يعيش في دوامة أسئلة مصيرية عن كيانه ومستقبله.
إقرأ أيضاً: باسيل والحزب: تغييب روح المسيحية باسم حقوق المسيحيين (2/2)
ان لاءات البطريرك، حملت رسائل سياسية تجاه حزب الله ورئيس الجمهورية ميشال عون، وجاءت من خلال مناشدته للبنانيين:
– لا تسكتوا عن تعدد الولاءات…
– لا تسكتوا عن الفساد وسلب أموالكم..
– لا تسكتوا عن الحدود السائبة وعن فشل الطبقة السياسية وعن الخيارات الفاضحة والانحياز.
– لا تسكتوا عن فوضى التحقيق في تفجير المرفأ وعن تسييس القضاء.
– لا تسكتوا عن السلاح غير الشرعي وغير اللبناني.
– ولا تسكتوا عن عدم تشكيل الحكومة.
إن الراعي في موقفه هذا، أحيا دور البطاركة… وعزّز موقع البطريركية في الحياة السياسية اللبنانية، وفي المواقف الجذرية في الحياة اللبنانية.
باختصار – البطريرك الماروني انتزع من حزب الله، تفويضا سلمه إياه الرئيس عون وتياره العوني.
وأخيرا فإن موقف البطريرك الراعي يتماهى مع موقف سماحة الامام المغيّب موسى الصدر الذي قال: “ان لم نتمكن من تحييد لبنان، فلن نحرّر شبرا من فلسطين، وسنخسر وطننا ونتحول الى لاجئين”.