يحدث أنّه في زحمة حديث جبران باسيل، وربعه، عن “حقوق المسيحيين” تقفز إلى شاشة رأسي، تلك الآية من أعمال الرسل، في الكتاب المقدس: “ودعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولًا”.
لا أدري تمامًا ما العلاقة بين دعوة تلاميذ المسيح مسيحيين في أنطاكية أوّل مرة، وبين إطناب جبران باسيل في الحديث عن حقوق المسيحيين في كلّ مرّة، سوى أنّنا في الحالتين نتحدث عن مسيحيين بالجمع، عن المسيحيين كجماعة. فما الرابط إذًا بين مقولة” المسيحيين” في الحالتين؟ ما المشترك وكم هي المسافة؟ هل هي فقط مسافة زمنية تُقدّر بألفي عام إلّا قليل؟ أم إنّها أبعد من مسافة، بحيث يُعدم كل قياس؟
حين يتكلم باسيل عن حقوق المسيحيين، الأرجح أنّ كلامه يتضمن بالفعل شيئًا من النوستالجيا إلى هذا الماضي الممتد من اللحظة التي دعي فيها المسيحيون، كذلك في أنطاكية، إلى تواريخ متراكمة من الوجود المسيحي في هذا الشرق. لكن مهما كانت الأهمية التي يمكن أن ترتديها هذه النوستالجيا لديه، يبقى أنّ هناك جماعة هي في الأساس روحية يعتقد باسيل أنّه يمكنه أن يذود عن حقوقها من دون الأخذ بالاعتبار أنّها جماعة روحية، تنال حقوقها بحسابات البازار كما ينتقيه لها، وهي “لاحقة” بعد ذلك أن تنصرف إلى بنائها الروحي بالشكل المناسب.
هذا الفصل بالتحديد بين “حقوق المسيحيين” وبين “المسيحيين حين دعوا كذلك أوّل مرّة”، وحين وحيث استمرّوا يجدّدون لحظة دعوتهم بهذا الاسم أوّل مرّة، هو فصل غير بديهي أبدًا.
لا أدري تمامًا ما العلاقة بين دعوة تلاميذ المسيح مسيحيين في أنطاكية أوّل مرة، وبين إطناب جبران باسيل في الحديث عن حقوق المسيحيين في كلّ مرّة، سوى أنّنا في الحالتين نتحدث عن مسيحيين بالجمع، عن المسيحيين كجماعة
هذه الجماعة الروحية صارت كونية في أنطاكية تحديدًا، حين لم تعد مجرد فرقة من فرق اليهود، بل بشارة تشقّ دربها سواء بين قسم من اليهود أو بين قسم من الأمم. وفي الوقت نفسه، بالنسبة للأنطاكيين من المسيحيين، هي جماعة تشهد على هذا التراث الثقافي الروحي الإقليمي المتعدّد الذي جعل انطلاقة هذه الكونية ممكنة. ليس معنى هذا أنّ البشر فيها لا يزاولون إلّا هذه الشهادة لتلك اللحظة التأسيسية، بل معنى ذلك أنّ هذه اللحظة التأسيسية المتجددة لها أن تتجوّل بحريّة في كلّ شرايين حياتهم اليومية، ومجالات أفكارهم، جيلًا بعد جيل.
إذًا حين يكون السؤال عن حقوق أعضاء هذه الجماعة، لا يفترض أن ينقطع هذا السؤال عن سمات هذه الجماعة، كجماعة روحية كونية، وكجماعة تعيش و”تتذكر” في الإقليم الأنطاكي الجغرافي – الرمزي، أي تعيد التركيب في كلّ مرّة، للحظة مناداتها مسيحية أوّل مرّة، من دون أن ترهق بلا طائل، العيش بالتذكر، أو التذكر بالعيش.
فالأمر هنا لا يمكن أن يختزل إلى مجرد حديث عن خلفية، وجذور، ومعتقدات وهوية. الأمر يتعلق بكيفية عدم هدر السياسي بحجة الروحي، والروحي بحجة السياسي، عندما يكون الحديث عن أوضاع المسيحيين في لبنان اليوم، وعن حقوقهم. يمكن للمرء أن تكون له بالنسبة إلى الإيمان الديني رؤى ومسالك عديدة، وبالنسبة لشعور الانتماء إلى جماعة لحظات مختلفة، لكن لا يمكن للمرء أن يتعامل مع جماعة روحية في الأساس، كما لو كانت روحية الرابطة التي تؤسّسها تفصيل طفيف، لا مكان له في أوّل الحديث وآخره إلا في نوبة نوستالجيا “جذورية” توحي بالموت أكثر مما تنبض بالحياة.
يمكن، بطبيعة الحال، أن يستهجن باسيل، أو كثيرون سواه، إثارة مثل هذا الأمر، ويسارعون إلى محاولة قطع الطريق عليه بأشياء من قبيل: أنّ كل هذا لا يقرّش في السياسة. وأنّه في السياسة نتكلم عن حصّة لهذه الطائفة وحصّة لتلك، ثم كلّ طائفة تنصرف إلى روحانياتها سواء في دور العبادة فيها أو في ضمير كل نفر من أنفارها.
حين يكون السؤال عن حقوق أعضاء هذه الجماعة، لا يفترض أن ينقطع هذا السؤال عن سمات هذه الجماعة، كجماعة روحية كونية، وكجماعة تعيش و”تتذكر” في الإقليم الأنطاكي الجغرافي – الرمزي، أي تعيد التركيب في كلّ مرّة، للحظة مناداتها مسيحيّة أوّل مرّة، من دون أن ترهق بلا طائل، العيش بالتذكر، أو التذكر بالعيش
المشكلة هنا أنّ المسيحية قامت تحديدًا على نقض هذا المنطق. تفصل بين ما لله وبين ما لقيصر لكنّها لا تفصل نفسها كجماعة عن كونها جماعة مجتمعة في الروح، وبالتالي مهددة بانفراط العقد الاهلي لقيامها كجماعة حالما تغترب عن رابطة الروح والذاكرة. أما أن تضع الجماعة المسيحية الروح جانبًا، للدخول في بازار الحصص التي تعود لها وتلك التي تعود للمِلل الأخرى، فأقلّ ما يقال عندها إنّ هناك مشكلة أساسية في هذا الصدد.
لا يفترض أن يستفاد من كل هذا في المكابرة على أسئلة الديموغرافيا والجغرافيا السكانية، ولا على المآلات الإثنية المتفاوتة للجماعات الدينية، ولا على إشكاليات التمثيل والتوزيع للسلطة والموارد بين الجماعات في وضع متعدّد. إنّما في الوقت نفسه، فإنّ جماعة دينية يجري تناول الحقوق باسمها كجماعة دينية، هل يمكن قطع السؤال عن ماهيتها الروحية والثقافية؟
ستكون النتيجة أنّه بعد ألفي عام على دعوة المسيحيين كذلك في أنطاكية أوّل مرّة، وبعد ألفي عام من الاستمرار المسيحي الأنطاكي في هذه الأرض، هناك من تعني له مارونيّته ومسيحيّته، خلطة من التمسّك بالجذور، وترداد مقولات إيمانية، وتناول حسابات بازارية سياسية، إنما في كلّ هذا، من دون أيّ تنبّه لا إلى أنّ المارونية جماعة روحية أوّلًا، ولا إلى أنّ المسيحية ديانة كونيّة، وأنّ روح المسيحية هي نقد لـ”روح العالم”.
الإشكال إذّاك: هل يسع الحديث عن المسيحيين في لبنان والمنطقة وحقوقهم وحضورهم ودورهم دون ربط الحديث بالسؤال عن روح المسيحية نفسه ومآله؟
الاغتراب عن السؤال الأخير عمره عشرات السنين في هذه البلاد، لم يبدأ مع باسيل، بل هو اغتراب مهيمن على النخب السياسية المسيحية مهما بلغت درجات تديّنها وتطيّفها، بل يكاد يكون الاغتراب أكثر كلما كانت المحافظة (أي الخطّ المحافظ) أكثر. لكنّ باسيل حالة قصوية حتّى هنا. باسيل يمكنه أن يعني: التمسّك بالجذور، والتمسّك بالنوستالجيا، والتمسّك بالحصص، والطموح للرئاسة… إلخ. لكن كل ذلك من دون روح المسيحية، بل من دون مكان لروح المسيحية من الأساس. لأجل هذا، فإنّ أيّ نقد لطروحات باسيل وربعه لا يمكن أن يبقى شاردًا عن هذا الأمر.
لا يفترض أن يستفاد من كل هذا في المكابرة على أسئلة الديموغرافيا والجغرافيا السكانية، ولا على المآلات الإثنية المتفاوتة للجماعات الدينية، ولا على إشكاليات التمثيل والتوزيع للسلطة والموارد بين الجماعات في وضع متعدّد
نتيجة لهذا البتر لماهية الجماعة، تكون النتيجة مع باسيل هي محاولة استرجاع حقوق المسيحيين من المسلمين “الحريري ستايل” إنما تحت رعاية إسلاميين مسلّحين، بحجة أنّ الإسلاميين المسلّحين ليس بعينهم هذه الحقوق بما أنّ مداهم أوسع، بخلاف المسلمين غير الإسلاميين وغير المسلحين.
إقرأ أيضاً: لبنان: أزمة غياب المفوّض السامي (1/2)
لا يعني أنّه ليس هناك مشكلة عميقة بين كلّ طائفة وأخرى، وداخل كلّ مذهب، وضمن كلّ جماعة، بل هناك كلّ هذا، وفي الوقت نفسه بدل أن يفتحَ سؤالُ حقوق المسيحيين كجماعة السؤالَ عن ماهية هذه الجماعة ومدى اتصالها بروح المسيحية ومآلها، يصير السؤال عن أيّ مسلمين يقف معهم المسيحيون كي يساعدوهم على مسلمين آخرين، وأيّ المسلمين يقدّم للمسيحيين عرض الشراكة الأفضل، لا من حيث المسيحيين هم جماعة كونية، وجماعة روحية، بل من حيث هم جماعة تقطع نفسها عن روحها وكونيّتها.
لكنّ الجماعة من جهة ما يختاره باسيل لها، تقطع نفسها عن روحها وكونيّتها، عن ملكوتها، ويجري ربطها بجماعة، هي حزب الله، لا تفعل الشيء نفسه، إنّما جماعة تحوّل مكوّناتها الروحية والثقافية إلى إيديولوجيا دينية مسلحة، فتكون النتيجة أنّ المسيحيين كما يريدهم باسيل، يعرضون عن ربط السؤال عن حاضرهم بسؤال ملكوت المسيح، لصالح تجيير حاضرهم نفسه إلى غيابهم، وراء إيديولوجية ملكوتية من نوع آخر: ولاية الفقيه.