هو خبرٌ لم ينتبه إليه أحد. مرّ سريعًا في دوّامة الأخبار اليومية التي تحاصرنا من كلّ حدَب وصوب: على مجموعات الواتساب وعلى تويتر والتلفزيونات…
خبرٌ من سطرين فقط يوم الثلاثاء في 23 شباط: “العثور على جثة طفل حديث الولادة في كيس داخل مستوعب للنفايات، قرب “ميني ماركت زهر الدين” في منطقة البسطا التحتا في بيروت”.
أمس، انشغلنا بخبر قتل شرطيّ بلدي في برج البراجنة، وكان للخبر وقعٌ كبير على مواقع التواصل الاجتماعي وفي نشرات الأخبار. وفي اليوم التالي على رمي الطفل المسكين، انشغلنا بخبر قتل رجل في عكار بسبب إشكال فردي. لكنّ خبر الطفل مرّ بلا تعليقات. لم يشعر أحدٌ أنّه خبر يستدعي التوقف عنده.
طفلٌ رجّح خبراء أنّ عمره يومان فقط. أي أنّه وُلد يوم الأحد أو الإثنين، نزل من بطن والدته، التي حملته تسعةَ أشهر، بعد علاقة مع رجل، مع والده، أدّت إلى الحمل. وُلد ولم يكن بمقدور المرأة أن تعلن أمومتها ربما. ربما كانت العلاقة غير شرعية، بالمعنى الديني والاجتماعي. ربما كان لديها ثلاثة أولاد غيره، أو أربعة، أو خمسة، ولا طاقة لها على إعالة طفل جديد. ربما كانت متزوّجة حديثًا، وطُرِد زوجها من عمله، وكذلك طُرِدَت هي. أو أنّ راتب زوجها الذي كان يوازي 800 دولار، صارت قيمته الشرائية مئة دولار.
أمس، انشغلنا بخبر قتل شرطيّ بلدي في برج البراجنة، وكان للخبر وقعٌ كبير على مواقع التواصل الاجتماعي وفي نشرات الأخبار. وفي اليوم التالي على رمي الطفل المسكين، انشغلنا بخبر قتل رجل في عكار بسبب إشكال فردي
كثيرة هي الاحتمالات. لا تنتهي. وربما يقول قائلٌ إنّ هذا الخبر كان يمرّ في شريط الأخبار كلّ عام، أو كلّ حين وحين، في لبنان وغير لبنان، وربما لا علاقة له بالأزمة المالية. وهذا صحيح، وهذا واحد من الاحتمالات.
لكنّه خبر مرّ قربنا قبل أيام. في العاصمة بيروت. في البسطا التحتا. خبر قريبٌ جدًّا، عن امرأة قرّرت أن تقتل طفلها، وأن ترميه في مستوعب للنفايات، وأن تغادر. قرّرت أن تقتل طفلها وهو لم يكمل يومه الثاني، وأن ترميه بعيدًا عنها، قبل أن يطيب جرح الولادة، وقبل أن يفتح عينيه. فالأطفال لا يفتحون عيونهم في الأيام الأولى، ولا يبدأون في الرؤية قبل الشهر السادس. هو إذًا طفلٌ لم يرَ شيئًا بعد. لم يتنفّس بما فيه الكفاية قبل أن ينقطع نفَسُه. لم يشمّ رائحة والدته جيّدًا. لم يشبع من حليب صدرها. لم يلمس صدر والده. لم يحضنه أحد.
وُلِدَ، وفورًا اتُّخذ قرار إعدامه، وتم تنفيذ الحكم، على يد الوالدة أو الوالد أو على الأقلّ بموافقتهما، وبسرعة. وكان القرار برميه في مستوعب للنفايات، وليس بدفنه على الشاطىء، أو في حديقة بعيدة. هكذا، رُمِيَ بين النفايات، وتركه والداهُ طَعْمًا للجرذان، تقتات من جثّته القطط ربما، أو البراغيت، أو حتّى الديدان.
يخطر لي أنّ لبنان يشبه هذا الطفل، لكنّ عمره 100 عام وعام. متروكٌ في مستوعب نفايات المنطقة، حيث تقتات على جثّة هذا البلد، الكلاب والقِطط والديدان، وهو متروك في موته بلا أيّ نجدة. لم ينجده أحد خلال قتله، ولا بعد مقتله.
وُلِدَ، وفورًا اتُّخذ قرار إعدامه، وتم تنفيذ الحكم، على يد الوالدة أو الوالد أو على الأقلّ بموافقتهما، وبسرعة
هذا الطفل كان يمكن أن يكبر ليصيرَ إنسانًا جميلًا، فنّانًا، أو مبتكِرًا، أو طبيبًا أو ربما قاتلًا أو سارقًا. لا نعرف. لا نعرف من أين جاء، ولا أين كان يمكن أن يذهب.
لكن… لماذا لم يستفزّ هذا الخبر مشاعر أحد؟
ربّما لأنّ حوادث القتل باتت كثيرة ويومية. وربما لأنّ القرّاء والمستمعين عذروا القاتل أو القاتلة، واعتبروا أنّ التخلّص من طفل، في هذه الأيام، قرار مفهوم.
أو ربما لأنّ الطفل بلا هوية مذهبيّة. لم نعرف من نلوم. لم نعرف إذا كان شيعيًّا أو سنيًّا أو مسيحيًّا. لم نعرف عائلته. هل هي عشيرة تشتهر بالقتل. لم نعرف ما إذا كان أهله لبنانيين أو سوريين أو فلسطينيين. لم نعرف من أيّ منطقة جاؤوا.
إقرأ أيضاً: عن البلاد المثقوبة برصاصة “واعية”!
هكذا، حتّى في موته، هذا الطفل المسكين، كان بلا أهمية. فكي نغضب، في لبنان، علينا أن نعرف بوجه من سنغضب. علينا أن نتأكّد أنّ المغضوب عليهم يستحقّون غضبَنا. على وسائل الإعلام أن تجد من تطلق عليه نيران الكاميرات. على الصحافيين أن يعرفوا من عليهم أن يشتموا. وعلى الناشطين أن يعرفوا كيف يمكن التحريض من خلال القصّة.
لكنّ موت طفل، بلا هويّة، وبلا كنية، وبلا اسم، وبلا طائفة ولا منطقة ولا وطن، ورميه في مستوعب للنفايات، خبرٌ لا يستحقّ التوقف عنده.
ربما كنتَ محظوظًا أيّها الطفل. نَمْ هانئًا. من حظّكَ أنّك لم تكبر لترى.
لكن، ما يؤلم، كم كُنتَ وحدَك.