عن البلاد المثقوبة برصاصة “واعية”!

مدة القراءة 5 د


ذات يوم كنتُ أنصارياً. لم أعد أذكر كيف أو لماذا، لكنني أعرف ذلك من صورة تستقرّ على رفّ مكتبة في منزل أهلي. أنا وأخواي، في أحد استوديوهات التصوير مع خلفية اصطناعية فيها شمس وشجر نخيل، وفي عنقي أعلّق قلادة خضراء عليها شعار نادي “الأنصار”. أظنّ أنّ عمري كان يقارب دزينة من السنوات آنذاك. أقلّ قليلاً، أكثر قليلاً، لا أدري. لكنني كنت أنصارياً في تلك الفترة. وكنت بعمر الأطفال في الكليب الذي كان يعرضه تلفزيون المستقبل في التسعينات لأغنية (إعلان نادي الأنصار) “نادى منادي”، التي كتبها ولحّنها أحمد قعبور. وكانت الأغنية تدفع بي إلى البورة، بما تمثّله هذه الفسحة من خروج على الأهل ومن تمرّد على القواعد والضوابط. هناك، في البورة، سمعت الُسباب أول مرة، وهناك جرّبت السيجارة وكرهتها، وهناك لعبت كرة القدم وسحقتُ ركبتي بالإسفلت الأسود. وعشت إلى يوم لم أعد اذكر فيه، إلا لماماً، الماضي الذي مضى، والذي في الآن عينه لا يمضي، إذ أجده هناك، معلّقاً قلادة في عنقي.

إقرأ أيضاً: دفن السوريين في لبنان: الموت و…المذلّة!

وأعلم، كلما نظرتُ في الصورة، أنني نجوت حتى الآن من الماضي والحاضر. نجوت من البلاد القاتلة التي تقتل الناس كما يقتل الزمن الذكريات. ثم تدفن قتلاها في عتم مستودعات الذاكرة. تذكّرت، بومضات شحيحة، تلك الأيام، وأنا أقرأ ما كتب عن مقتل اللاعب محمد عطوي برصاصة “طائشة”. وقرأتُ، وأنا الغائب تماماً عن أيّ اهتمام بكرة القدم، محلية وعالمية، أنّ الكابتن الراحل لعب قبل سنوات لفريق الأنصار، ولبس قميص الفريق الأخضر مع الشعار، الشعار نفسه الذي حملته في عنقي وأنا طفل صغير. وقرأتُ، وأنا البعيد من ملاعب طفولتي أنّ اللاعب الخلوق المغدور برصاصة تسمّى “طائشة” لتجهيل مطلقها، وتجهيل المسؤولية عن شحنات التخلّف التي تحملها، من مواليد بلدة حاروف، أي البلدة التي كانت شقتنا على مفرقها، وكانت بورتنا في نطاقها الجغرافي، وكانت بلدة يخرج منها لاعبون مميّزون في كرة القدم، وفيها أكثر من بورة، ترتقي مع بعض التحسينات من هنا وهناك، إلى ملاعب لكرة القدم فيها عوارض حديدية بدل حجارة الباطون، وفيها كرة قدم بدل تنكة بيبسي أو بدل كيس محشوّ بالأكياس نقنعه ونقنع أنفسنا أنه طابة.

محمد عطوي، الذي كان في زمن مضى ولداً في بورة، عاش وكبر في الملاعب الشاسعة، ولعب كرة القدم في أرذل أيام الرياضة اللبنانية، مصمّماً على حلمه

كان محمد، المولود بعدي بثلاث سنوات، يشبه الأطفال في كليب “نادى منادي”. ما إن يسمع الصفّارة حتى يركض إلى البورة، ليصنع فيها حلمه، لا بتسجيل أهداف في المرمى فحسب، بل في التسديد في شباك الحياة. وكانت الحياة حينذاك تشبه البورة، ترتقي أحياناً إلى ملعب شاسع، ثم تعود لتنزلق إلى زقاق ضيق. قد نكون التقينا محمد وأنا في بورة ما، في لحظة ما، في تلك الفترة. لكن كرة الحياة، تدحرجت وذهبت بكلٍّ منا إلى ملاعبه، وأنا إذ تعرقلت طموحاتي الكروية، حيث لم تساعدني لا قدماي على التسديد والإصابة، ولا يداي على صدّ الأهداف، وجدتني أنسحب من الملاعب إلى المدرجّات، ثم أشاهد من شاشة التلفزيون “اللي مبارح كانوا اولاد صاروا أبطال لبنان”. ثم انسحبت من متابعة اللعبة، وانقطعت عنها تماماً، حتى لا أكاد أشاهد مباريات إلا في مواسم المونديال، أو اذا وضعتني الصدف في سهرات مع أصدقاء يتابعون دوري أبطال أوروبا أو الدوريات الأوروبية المحلية. وعلى ما تقول الأغنية “الأرض بتدور، والطابة بتدور”، ومحمد عطوي، الذي كان في زمن مضى ولداً في بورة، عاش وكبر في الملاعب الشاسعة، ولعب كرة القدم في أرذل أيام الرياضة اللبنانية، مصمّماً على حلمه، واثقاً من قدميه لتحملاه إلى أهدافه، في الملعب وفي الحياة. سدّد، ومرّر، وحاور، وناور و”حطّ الطابة غول”. وكان كسنبلة القمح، ينحني تواضعاً، وكان كسنّ الرمح حاداً يعرف طريقه إلى طريدته، ومع ذلك، غدرته رصاصة “واعية”، واخترقت جمجمته، واستقرّت فيها لأكثر من شهر، تحفر في ذاكرته، وتحاور طفولته، وتقتله ببطء.

عندما قرأتُ خبر وفاته، تيقّنتُ أنّ البورة لم ترتقِ لتكون ملعباً. وأن المنادي كان يجب أن لا ينادي على أطفال الحيّ، لكي يؤسسوا نادياً، فيكبر النادي ويكبر أولاد الحيّ، كما تقول اغنية أحمد قعبور. كان على أولئك الأطفال أن يبقوا في صورتهم بالأسود والأبيض، في الحيّ، في البورة، وينساهم “اللي نادى الناس تيكبروا الناس”، كما في أغنية “يا دارة دوري فينا” لفيروز. وكان عليّ ربما أن أبقى محنّطاً في الصورة على الرفّ في مكتبة أهلي، مع القلادة الخضراء، حتى لا أصل إلى يوم أرى فيه الشباك ممزّقة. لو أنّ محمد بقي هناك، في البورة، في الأسود والأبيض، خارج دورة الأرض ودورة الطابة، هل كان ليتجنّب الرصاصة؟

يا محمد، إنهم يلعبون جميعاً في الوقت الضائع في انتظار صفّارة النهاية، ولا يعلمون أنّ مباراتك انتهت

لا استطيع أن اجزم. لكنني أتذكر بيتاً شهيراً من معلّقة زهير بن أبي سلمى: “رأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ/ تُمِـتْهُ وَمَنْ تُخْطِىء يُعَمَّـرْ فَيَهْـرَمِ”. هل كان محمد ليعمّر ويهرم إذا اخطأته هذه الرصاصة الـ”عشواء”؟

لم ينج محمد. هل أنجو أنا من رصاص “طائش” أو “واعٍ” مستقبلي، فأعمّر وأهرم، وأنا أشاهد “ولاد الحيّ” وهم يموتون أو يهاجرون أو يستسلمون بلا أدنى مقاومة، بلا حياة وبلا موت؟ على الغالب، لن أنجو أيضاً. هذه البلاد، كرة تتقاذفها الأقدام في بورة الشرق الأوسط.

يا محمد، إنهم يلعبون جميعاً في الوقت الضائع في انتظار صفّارة النهاية، ولا يعلمون أنّ مباراتك انتهت. أنّ مباراتنا كلنا انتهت. أنّ الحَكَمَ الأجنبيّ أطلق صافرته. أنّ الجماهير صفّقت لك طويلاً وأنت تخرج من الملعب على حمّالة. وأنّ البلاد كرة مثقوبة برصاصة “واعية”.

مواضيع ذات صلة

2024: زلزال دمشق وصحوة الإسلام السّنّيّ

شهد عام 2024، في قلب وعقل الإسلام العربي السنّي، صحوة على القضيّة الفلسطينية قادتها حماس و”الحزب”، وأفادت منها إيران، لكنّها خلّفت إحباطاً كبيراً بعد شهورها…

فلسطين: نكسة 2024.. 2025 القضية مستمرّة..

ساد قولٌ لا أساس له من الصحّة، مفاده أنّ عملية طوفان الأقصى أحيت القضية الفلسطينية، بعدما لفظت أنفاسها وأصبحت نسياً منسيّاً. ازدهر هذا القول حين…

“الزّلزال الشّيعيّ”: الفالق في طهران والدمار في لبنان

“طوفان الأقصى”، في غزة، يحرّر سوريا من إيران، في 11 يوماً فقط، وبطريقة صادمة ومؤلمة لمحور المقاومة، وللهلال الشيعي خاصة. فكانت ضربتان قاصمتان: الأولى، سقوط…

واشنطن براغماتيّة وليس الجولاني

حين يتسلّم الرئيس ترامب سدّة الرئاسة في 20 كانون الثاني لن يكون أمام إدارته اتّخاذ قرار بالتواصل مع هيئة تحرير الشام لأنّ الإدارة الحالية سارعت…