على قياس مجد لبنان الذي أُعطي لسيّد بكركي جاء الرد حاكماً وحازماً وشجاعاً على الأمين العام لحزب الله، الذي راح يوزّع الاتهامات والتهديدات والنصائح الوطنية في خطابه الأخير، بما أنّه “المرشد الأعلى للجمهورية اللبنانية”، والمؤتمن الوحيد على حسن سيرها وفق النسق الذي يريده ويشتهيه. إذ اعتبر أنّ المطالبة بحياد لبنان وبالتدخّل الأممي سيؤدّي إلى الحرب والخراب، و”ما حدا يمزح بهيدا الموضوع”.
طبعًا هذا الـ”حدا” هو البطريرك الراعي، والمزاح هو لغة الدعابة ونقيض الجدّ. بمعنى أوضح: بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق، ومعه البطريركة المارونية، وكل أرباب الكيانية والنهائية والحرية والسيادة والاستقلال، يتسلون بإطلاق المزاح حول مستقبل لبنان الذي يوازي قدس أقداسهم، وهم الذين حموه برموش عيونهم على مدى 16 قرنًا ونيف.
هو نفسه، الأمين العام لحزب الله، الحريص على سلامة لبنان واستقراره، والمتوجّس من الحرب والخراب، كان قد برّر ذهاب حزبه إلى دمشق بضرورة حماية المراقد المقدسة، قبل أن يعود وينتشل قتلاه من أزقة الزبداني إلى أقاصي القصير وحمص وإدلب وحلب. وهو نفسه الذي شنّ أعنف الهجمات الخطابية والتحريضية على دول صديقة وشقيقة، معرّضًا لبنان برمته إلى ما يشبه العزلة العربية الكاملة، ناهيك عن مئات آلاف اللبنانيين العاملين في دول الخليج، الذين كادوا أن يلقوا مصيرًا لا يقلّ سوادًا عن حالة بلادهم في هذه الأيام.
طبعًا هذا الـ”حدا” هو البطريرك الراعي، والمزاح هو لغة الدعابة ونقيض الجدّ. بمعنى أوضح: بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق، ومعه البطريركة المارونية، وكل أرباب الكيانية والنهائية والحرية والسيادة والاستقلال، يتسلون بإطلاق المزاح حول مستقبل لبنان
هذا السيّد الذي حوّل لبنان إلى منصّة عسكرية وأمنية وإعلامية حاقدة على المنطقة والعالم، وإلى ساحة للتهديد والوعيد، وإلى خزان لتعبئة الشباب وإرسالهم إلى القتل والذبح والموت في سوريا وفي العراق وفي اليمن، هو نفسه الحريص على لبنان المهدَّد من البطريرك ومن مجمّع الكرادلة.
لكن بعيدًا من الشكليات، رغم أهميتها ومحوريتها: لماذا يخشى حزب الله فكرة الحياد؟ ولماذا يجنّ جنونه كلما تعالت الأصوات المطالبة بتدخّل أممي؟
لأنّ مشروعه ببساطة هو السيطرة على لبنان وتحويله إلى أداة تستخدمها إيران في مغامراتها التوسعية، وفي نفوذها الناعم، وفي أغراضها التفاوضية، وبالتالي فإنّ فكرة الحياد بحدّ ذاتها هي الوجه المقابل والمضاد لهذا النفوذ والحضور، وهي الفكرة السلمية الأنجع لمواجهة هذا التغوّل الرهيب، وهذا الاعتداء السافر والمتواصل على الدولة وشعبها وتاريخها وعلى محورية دورها وفرادة رسالتها في قلب هذا الشرق الحزين.
هذا في الحياد، أما في التدخّل الدولي والأممي، فالحكاية مختلفة تمامًا. فهذا النوع من التدخّل سيصطدم مباشرة بحزب الله، ليس باعتباره حزبًا مسلّحًا وملحقًا بدولة إقليمية وحسب، بل لأنّه أسّس دويلته الموازية للدولة اللبنانية، بعدما قبض على غالبية مفاصلها السياسية والأمنية والعسكرية وحتى الاقتصادية، وصار بالتالي العنوان الحقيقي والوحيد لأيّ مواجهة مفترضة مع التدويل، إن عبر قرارت أممية عادية أو تحت الفصل السابع، لأنّه، وبكل بساطة، المتضرّر الأبرز من أيّ نشاط مماثل لحماية لبنان أو إخراجه من عنق الزجاجة.
بعيدًا من الشكليات، رغم أهميتها ومحوريتها: لماذا يخشى حزب الله فكرة الحياد؟ ولماذا يجنّ جنونه كلما تعالت الأصوات المطالبة بتدخّل أممي؟
وهذا ما يجب أن يدفع جميع الغيارى، وعلى رأسهم القوى السيادية، إلى الوقوف صفًّا واحدًا خلف دعوة البطريرك، وإلى دعمها وتسويقها باعتبارها الحلّ الوحيد لخلاص لبنان، والذي لا بدّ أن يبدأ بتدخّل أممي وازن يؤمّن خلاص لبنان وانتقاله من لعبة المحاور إلى الحياد الإيجابي، وإلى ممارسة دوره الطليعي والرائد على مستوى المنطقة والعالم، وإلى إعادة بناء هويته السياسية والاقتصادية على النحو الذي يليق به وبشعبه الخلّاق والتواق للتطور والازدهار.
إقرأ أيضاً: الراعي يصعّد لـ”التدويل”… الحزب هو الرافض الوحيد
سياسات حزب الله ومشروعه أخذت البلد إلى الجحيم، وهي لا تزال تجذبه بعنف نحو الدرك الأسفل من القاع السحيق، ولا حلّ أمامنا سوى المواجهة السياسية السلمية بمساعدة أممية. أما تلويح الأمين العام بالحرب والخراب، فهو بلا أيّ قيمة، لأنّنا أساسًا تجاوزنا هذا التهديد، وصرنا جميعًا أمام تحديات وجودية لا تحتمل المواربة أو أنصاف الحلول.
تحية للبطريرك ولشجاعته ولوطنيّته، ولا شكّ أنّه البوصلة السياسية الوحيدة التي لا بدّ من السير خلفها وإلى جانبها في هذا الوضع العصيب، لا سيما في غمرة تقاطع المصالح وتنوّع الحسابات، لأنّنا بذلك نسلك الطريق الوحيد لخلاصنا وخلاص لبنان.