لمرتين متتاليتين في أقلّ من أسبوع كرّر البطريرك الماروني بشارة الراعي الدعوة إلى مؤتمر دولي لإنقاذ لبنان. قال الراعي في قداس عيد مار مارون: “لبنان يحتاج اليوم إلى دورٍ دوليٍّ حازمٍ وصارمٍ يُطبِّق القراراتِ السابقةَ من دونِ استثناء واجتزاءٍ، حتى لو استدعى الأمرُ إصدارَ قراراتٍ جديدةٍ. جميعُ اللبنانيّين بحاجة إلى إنقاذ، فكلنا في محنةٍ أمام الواقعِ المأزوم. وكلّما أسْرعنا في هذا المسار كلما جاء الحل في إطار وحدة لبنان وشراكتِه السامية، وكلما تأخّرنا تاهَ الحلُّ في غياهبِ العنف والانقسام ِمن دون رادعٍ وكابِح، وما من منتصر”.
الأمر غير بسيط أو عابر، إنّها بكركي حامية الدور والكيان. لا يمكن لموقف من هذا النوع إلا أن تكون له أصداء بعيدة المدى دولياً، وبالتأكيد هو يعبّر عما هو غير ظاهر حتى الآن.
لطرح المؤتمر الدولي قصة طويلة الأمد نسبياً. بحسب ما تكشف معلومات خاصة بـ”أساس” فإنّ التفكير بها قد بدأ منذ اندلاع ثورة 17 تشرين، وتنامى البحث حول الفكرة في منتصف 2020، خلال زيارات واتصالات متكررة أجراها البطريرك الراعي مع الفاتيكان. في آخر زيارة له إلى روما، حمل معه ورقة عمل كاملة حول الأزمة اللبنانية، في خلاصتها اقتراح قدّمه إلى الفاتيكان يطلب السعي لتنظيم مؤتمر دولي حول لبنان، الهدف منه إبعاد البلد عن الصراعات الإقليمية والدولية، انسجاماً مع طرح الحياد.
الأمر غير بسيط أو عابر، إنّها بكركي حامية الدور والكيان. لا يمكن لموقف من هذا النوع إلا أن تكون له أصداء بعيدة المدى دولياً، وبالتأكيد هو يعبّر عما هو غير ظاهر حتى الآن
تطوّر طرح البطريرك من المطالبة بالحياد إلى الدعوة لعقد مؤتمر دولي، مع ما يعنيه ذلك من تدويل للأزمة اللبنانية والحلّ. وهو ينتظر ملاقاة لبنانية داعمة له في موقفه هذا. بالتزامن مع هذا الطرح، برزت مؤشرات دولية متعددة التحركات على الساحة اللبنانية.
أوّلاً: تجديد المبادرة الفرنسية وتكثيف الجهود في سبيل إنجاحها من خلال اتصالات مع القوى اللبنانية، ومع جهات خارجية سعياً وراء توفير توافق معين.
ثانيا:ً موقف البابا فرنسيس الذي دعا إلى حماية لبنان واستقراره وإبعاده عن الصراعات والتجاذبات الإقليمية والدولية، مع التشديد على حماية المسيحيين وعدم إضعافهم كي لا يتهدد جوهر الهوية اللبنانية. ولا يمكن لموقف الفاتيكان أن ينفصل عن موقف بكركي.
ثالثاً: عودة السفير السعودي وليد البخاري إلى لبنان، مع ما يحمل ذلك من رمزية حول عدم ترك الساحة اللبنانية، وإظهار الحضور السعودي بعد تثبيت جملة أمور وملفات إقليمياً ودولياً خصوصاً على صعيد العلاقة السعودية مع الإدارة الأميركية الجديدة، وبعد محاولات فرنسية حثيثة تجاه المملكة للتعاون في الملف اللبناني.
رابعاً: زيارة الرئيس سعد الحريري إلى مصر فدولة الإمارات وبعدها إلى باريس، إلى جانب التحرك المصري الواضح والمشهود الذي يقوم به السفير المصري في لبنان، وهنا لا بد من الإشارة إلى زيارته قبل حوالى أسبوعين إلى بكركي ولقائه البطريرك وإطلاقه موقفاً متقدماً جداً حول التعاون مع بكركي التي تحمي الدستور والكيان.
خامساً: زيارة وزير خارجية قطر محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى لبنان، وهي تأتي في سياق الاستعراض القطري بتقديم المساعدات الإنسانية، لكنها لا تنفصل عن اهتمام إقليمي ودولي بالملفّ اللبناني. خصوصاً أنّ قطر تسعى إلى لعب دور بين الإيرانيين والأميركيين، وتشير المعلومات إلى أنّ قطر حاولت إقناع إيران بالحصول على تنازلات في الملف اللبناني، كما أنّ بعض المعطيات تفيد بأنّ تواصلاً أميركياً إيرانياً حصل عبر قنوات قطرية.
سادساً: زيارة مسؤول ملف الشرق الأوسط في قصر الإيليزيه باتريك دوريل إلى لبنان أواخر الأسبوع ولقائه مع المسؤولين اللبنانيين سعياً للوصول إلى توافق والعمل على إيجاد تسوية بين القوى المتخاصمة.
تطوّر طرح البطريرك من المطالبة بالحياد إلى الدعوة لعقد مؤتمر دولي، مع ما يعنيه ذلك من تدويل للأزمة اللبنانية والحلّ. وهو ينتظر ملاقاة لبنانية داعمة له في موقفه هذا. بالتزامن مع هذا الطرح، برزت مؤشرات دولية متعددة التحركات على الساحة اللبنانية
كل هذه التطورات، تؤشّر إلى تصاعد الحضور الدولي في لبنان، وتخلص إلى أن لا إمكانية لحلّ الأزمة اللبنانية من دون تعاون دولي حثيث. وهذا ما كان يتم التحضير له في فترات سابقة، تحديداً بعد انفجار 4 آب، عندما أعلن الفرنسيون عن مبادرتهم، وبنيتجتها كان يفترض عقد ثلاثة مؤتمرات خاصة بلبنان.
– المؤتمر الأول هو للدول الداعمة وتقديم مساعدات إنسانية.
– المؤتمر الثاني كان يفترض أن يبحث كل الملفات العالقة والعناصر الأساسية في الأزمة سياسياً واقتصادياً، لكن شرط انعقاده كان أن يلي تشكيل حكومة لم تتشكل حتى الآن.
– ثالثاً دعوة فرنسية إلى طاولة حوار لبنانية برعاية دولية تطرح عليها كل الملفات الخلافية سياسياً، عسكرياً (ملف السلاح)، ولا تنفصل عن ملف ترسيم الحدود، وتعديلات في النظام اللبناني أو الدستور.
لم تتحقّق هذه المؤتمرات، بسبب عرقلة عملية تشكيل الحكومة، وصل لبنان إلى ما وصل إليه اليوم. الأمر الذي دفع الراعي إلى إطلاق صرخة قلق ملمحاً يوم الأحد الفائت إلى ان ما يجري هو تدمير ممنهج، لا بد من الإلتفاف عليه وتطويقه من خلال المؤتمر الدولي.
كل هذه التطورات، تؤشّر إلى تصاعد الحضور الدولي في لبنان، وتخلص إلى أن لا إمكانية لحلّ الأزمة اللبنانية من دون تعاون دولي حثيث
القوى السياسية قرأت موقف الراعي قراءة استثنائية، فكان الموقف الأكثر تعبيراً هو موقف النائب أنور الخليل الذي لا يمكن أن يعلن ما قاله بدون تنسيق أو إشارة مع رئيس مجلس النواب نبيه بري.
رؤساء الحكومة السابقون كانوا على تنسيق متقطّع مع البطريرك على الرغم من عدم إطلاق أي موقف يلاقي مسألة التدويل. بعضهم يعتبر أن الوقت لم يحِن بعد، فيما البعض الآخر يرى أنّ مسألة التدويل قد لا تكون ناضجة لا في مجلس الأمن ولا في الأمم المتحدة، لأنّه لا بدّ من مراقبة موقف روسيا والصين، وانعكاسات ذلك على الوضع الداخلي. ويقول أحدهم إنّ طرح التدويل لا يمكن أن يقترن بقراءة واضحة حول ما سترسو عليه الأمور في النهاية. لكنّهم يؤكدون أنّه في النهاية لا حلّ إلا من خلال مبادرة دولية.
إقرأ أيضاً: الدستور وبكركي: قبّة رئيس الجمهورية الحديدية
وليد جنبلاط لم يُبدِ أيّ موقف حيال مسألة التدويل، لكنه يعلم أن حلّ الأزمة لا يمكن إلا أن يكون نتاجاً لتسوية دولية كبيرة ينتظرها لبنان، لكن من غير المعروف مدى قدرة التحمل على الإنتظار.
القوات اللبنانية والكتائب تتحمسان لمثل هذه الدعوة، وهذا موقف ثابت لديهما.
رئيس الجمهورية يعتبر نفسه مستهدفاً في عهده ورمزية وجوده وهناك جوّ استياء كامل من كلام البطريرك.
حزب الله يستخفّ بهذه الدعوة، ويعتبر أنّ مسألة التدويل سقطت في الكثير من الحقبات، منذ العام 1983 إلى اليوم. وأنّه حتّى القرارات الدولية لم تطبّق ولا سيما 1559. ولا يرى الحزب أيّ أفق جدي لهذا الطرح، لكنّه لا ينفي أنّ الأزمة اللبنانية جزء من الأزمة الدولية، لكن حلّها لا يكون بالتدويل.