في الخامس من شباط عام 1986، قبل 35 عاماً، اغتال النظام السوري الشهيد خليل عكاوي (أبو عربي) بعد أن شكّل حالة استنهاض وجدانية وشعبية في طرابلس، وبعد مواجهة شرسة مع نظام حافظ الأسد انتهت كما هي العادة بلجوء ُمدمِّر حماة ومُبيد أهلها إلى القتل وتصفية أبي عربي وإتباع ذلك بمجزرةٍ هائلة ذهب ضحيتها ما يقارب ألف لبناني من أبناء حيّ باب التبانة والجوار، قامت بها قوات النظام وميليشيات علي عيد التابعة لها على مدى أيام، فلم تترك طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً عجوزاً ولا شاباً ولا رجلاً إلاّ قتلته بأكثر الأساليب وحشية ودموية.
اغتال نظام الأسد خليل عكاوي لأنّه رفض الانسياق في مسايرة عملية احتلال طرابلس التي كانت تجري حينذاك برعاية إيرانية أسفرت عن الإبقاء على الشيخ الراحل سعيد شعبان كحالة منبرية وإذاعيّة، ثمّ تتالت التصفيات لتفريغ طرابلس من أيّ مقاومة سياسية أو ميدانية، ولتطبيع الحالة العامة فيها مع السيطرة الأمنية المتحكّمة بمفاصلها كافة.
لم يكن أبو عربي مستعداً لمجاراة ما يراه من تخاذلٍ وتواطؤ واضمحلالٍ لروح المقاومة لدى الذين اعتبرهم رفاق نضاله، ليتضح أنّهم فضّلوا الاستسلام لفكرة النجاة هرباً من دفع أثمان النضال من أجل الحرية والحق، ولو كان ذلك على حساب الكرامة والمستقبل. كان خليل عكاوي يعلم أنّ سقوط طرابلس بيد قوات حافظ الأسد، كان يعني حتماً دخولها نفق الظلام الطويل وخضوعها لكلّ أشكال الإرهاب والتخريب في بنيتها الاجتماعية وقيمها الأخلاقية.
ربما كانت الميزة الأهمّ لأبي عربي أنّه تمسّك بالقيم الدينية ببعدها الأخلاقي والاجتماعي والإنساني، بعد تجربة يسارية انتهت بتوجّهٍ إسلاميّ لم يغيّر من نمط مقاربته للشأن العام، فهو كان يعيش هموم أهله وناسه، وكان يترجم نضاله من أجلهم ببساطة السهل الممتنع، من دون فلسفة ولا مباهاة. وكانت كلماته وصرخاته ملءُ عيون أبناء المدينة وقلوبهم، رغم انعدام وسائل الإعلام المتطورة وغياب وسائل التواصل الاجتماعي. فهو لم يكن بحاجة إلى الدعاية ولم يكن يطلبها في الأساس، بل كان الأهالي يتناقلون كلماته شفاهة وعبر أشرطة الكاسيت، وكانوا يتلقّونها على أنّها تمثّلهم وتعبّر عنهم في مواجهة تلك الأحداث الجسام التي تعرّضوا لها.
اغتال نظام الأسد خليل عكاوي لأنّه رفض الانسياق في مسايرة عملية احتلال طرابلس التي كانت تجري حينذاك برعاية إيرانية أسفرت عن الإبقاء على الشيخ الراحل سعيد شعبان كحالة منبرية وإذاعيّة، ثمّ تتالت التصفيات لتفريغ طرابلس من أيّ مقاومة سياسية أو ميدانية
كان أبو عربي يدرك أنّ لرفض مسايرة الاحتلال الزاحف إلى الفيحاء ثمناً باهظاً، ومستحقّاً، نظراً للتخلّي العربي آنذاك، فواجه حتى النهاية من دون تردّد. وبقي حتى قبل استشهاده بساعات يرفض ما يطرحه النظام السوري الذي اغتاله كما اغتال عصمت مراد ومصطفى كردية وفؤاد الكردي وسمير الشيخ، الذين تحتّم عليهم أن يدفعوا بدورهم الثمن نفسه لوقوفهم ضدّ السياسات السورية في لبنان. فاغتالتهم المخابرات السورية بأبشع الوسائل، من ذلك اغتيال سمير الشيخ مع زوجته وطفليه، وبقي الشيخ سعيد شعبان، ليكمل تغطية الاحتلال السوري، وليخرج هاشم منقارة من سجون نظام الأسد كأحد توابعه المتطرّفين في اعتناق الولاء له بعد ما يقارب اثني عشر عاماً من الاعتقال.
عانت طرابلس طويلاً بعد استشهاد خليل عكاوي ولم تتنفس إلاّ بعد الانسحاب السوري من لبنان، لكنّها رغم ذلك بقيت ساحة للاستهداف بجولات الاشتباكات وبتفجيرات المساجد، وبالإفقار المتعمّد، وواصلت حركة التوحيد التي كان الراحل أحد أركانها المعترضين على سياسات التنازل، مسيرة الانحراف السياسي في الفلك الإيراني وما يتبع هذا الانحراف من مخاطر تتأتى مما يطلبه الإيرانيون على المستويات الأمنية والسياسية.
تركت تجربة حركة التوحيد بعد اغتيال الشرفاء فيها آثاراً سلبية على مدينة طرابلس ونسيجها الاجتماعي، رغم أنّ الغالبية الساحقة من أبناء المدينة رفضت الانحرافات التي قام بها بعض المشبوهين والمخترَقين، من إعدامات وصبٍّ في البراميل، وهي ممارسات لا يزال أصحابها يتمتعون بحماية نظام “حزب الله” الحاكم، رغم انغماس بعضهم في تفجيري مسجدي السلام والتقوى.
عانت طرابلس طويلاً بعد استشهاد خليل عكاوي ولم تتنفس إلاّ بعد الانسحاب السوري من لبنان، لكنّها رغم ذلك بقيت ساحة للاستهداف بجولات الاشتباكات وبتفجيرات المساجد، وبالإفقار المتعمّد
اللافت في بعض الذين يستذكرون أبا عربي من السياسيين أنّهم يشيدون بمزاياه ويتجاهلون قاتله، تماماً كما فعل الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري الذي غرّد قائلاً:”في ذكراه الـ35 تحية إكبار لروح الشهيد خليل عكاوي، أبو عربي الحاضر بنضالات لا تغيب عن التبانة وأهلها، والمحفور في ذاكرتنا قائداً شعبياً افتدى بدمائه الأرض والعرض في عز عمرٍ أمضى سنواته الـ32 متواضعاً في الدفاع عن قضايا وطنه وأمته ومدينته طرابلس التي أحب.. ونحب”.
إقرأ أيضاً: “أبو عربي”.. وطرابلس اليتيمة منذ 40 عاماً
الأسلوب نفسه اعتمده الحريري في استذكار الشهيد وسام عيد عندما قال:”..ستبقى وساماً على صدر الحقيقة والعدالة.. رحمك الله ورفيقك الشهيد أسامة مرعب وحمى أبطال شعبة المعلومات وقوى الأمن الداخلي من كل شر”. فلا جرأة على تسمية القاتل نفسه الذي اغتال رفيق الحريري، لأنّ تيار المستقبل بات يعتمد تجهيل القاتل الذي يجلس إلى جانبه على كراسي السلطة ويريد أن يستمر في المتاجرة بالقضايا ذات الاهتمام الشعبي، تماماً كما قال أحمد الحريري ذات مقابلة، إنّ الأداء السياسي يماثل حالة الأسواق وما يعتريها من عرضٍ وطلب.
كان أبو عربي وسيبقى رمزاً لمقاومة النظام السوري المرتكب للمجازر، ولم يكن يوماً ليرضى بما يفعله أصحاب نظرية المتاجرة السياسية. وسيبقى طلب العدالة له ولشهداء مجزرة التبانة ولكلّ ضحايا محور الممانعة هو البوصلة التي تحيي النضال، بعد أن أثبتت التجارب أنّ كلّ تأخير في المقاومة والمواجهة ستكون تداعياته كارثية، وكلّ تساهل في طلب الحقّ يعني تنازلاً عن حقّ أجيالنا في مستقبل حرٍّ وآمن ومزدهر.