.. كلهم متواطئون بقتل عُمَر*.
.. كلهم اشتركوا بإطلاق النار عليه بدمٍ بارد، أمسكوا جميعاً البندقية، وضغطوا معاً على الزناد لتصيب الرصاصة القاتلة جسده النحيل. ثمّ عادوا إلى مواقعهم ومقرّاتهم ومنازلهم وكأن شيئاً لم يحصل. وحده لم يعد عُمَر إلى منزله وعائلته والرفاق.
لم يغادر ابن باب التبانة منطقته الفقيرة الجائعة البائسة لينزل إلى ساحة النور كي يبيع القهوة أو كعكة طرابلسية للمارة. الشرطة تمنعه من ذلك. بالأمس لعدم امتلاكه ترخيصاً، واليوم لأنّ الحكومة فرضت الحجر على عُمَر. لم يذهب إلى هناك ليشتري الحلوى لعائلته، فهو لا يملك ثمن رغيف خبز، فكيف بثمن علبة حلوى، لو امتلكه ما قصد الساحة، وبقي في المنزل وما غادر.
نزل عُمَر مع رفاقه إلى الساحة ليبكي وليُسْمِعَ الناس وجعه وقهره وذلّه، وهذا الكمّ الضخم من الغضب.
كلهم اشتركوا بإطلاق النار عليه بدمٍ بارد، أمسكوا جميعاً البندقية، وضغطوا معاً على الزناد لتصيب الرصاصة القاتلة جسده النحيل. ثمّ عادوا إلى مواقعهم ومقرّاتهم ومنازلهم وكأن شيئاً لم يحصل
لقد انشغلنا كلنا ناساً وإعلاماً وأمنيين بخبر موت عُمَر، وسكتنا جميعاً عن السؤال: من قتل عُمَر؟ نحن لا نجرؤ على أسئلة كهذه، ونخشى الإجابة عليها كي لا يكون مصيرنا كمصير عُمَر.
.. تقدّم عُمَر بمئات الطلبات بحثاً عن وظيفة براتب متواضع، ولم يتلقَ أيّ جواب أو اتصال من أيّ مؤسسة أو شركة أو متجرِ صغير أو حتى بسطة لبيع الخضار. وحدها الأجهزة الأمنية بكل أنواعها ثابرت على الاتصال به واستدعائه بناءً لوثيقة اتصال غير قانونية أو لوشاية مخبرٍ رخيصٍ أو لفبركة مجموعة إرهابية تمنح المُفبرك ترقية أو علاوة. فجسمه “لبّيس” طالما أنه ابن طرابلس، وتحديداً باب التبانة، واسمه عُمَرْ.
نزل عُمَر مع رفاقه إلى الساحة ليبكي وليُسْمِعَ الناس وجعه وقهره وذلّه، وهذا الكمّ الضخم من الغضب
.. جلس عُمَر منذ العام 2018 عند باب المدرسة في باب التبانة حيث صوتت عائلته بالانتخابات النيابية منتظراً الزعيم ورفض المغادرة قائلاً: “لقد وعدني “معلمي” بالطعام والعمل والثياب والكرامة، ولا أظنه كّذب علينا وكلامه قد عَبَر”.
.. حاول عمر الهجرة وركوب البحر مع الهاربين من أبناء مدينته، لكنه لم يجد من يقرضه مالاً ليشتري حقيبة صغيرة للسفر.
ثابر على صلاة الجماعة خلف إمام المسجد فجراً وظهراً وعصراً ومغرباً وعشاءً، وتلاوة الدعاء حتى بزوغ ضوء السَحَرْ. صدّق كلّ كلام خطباء المنابر، أنّ طاعة أولي الأمر نجاة لمن اعتبر. فآمن أنه لم يعد له أب واحد، فرئيس الجمهورية قال إنّه “بيّ الكل” والزعيم ادّعى أنه أبٌ لكل من اسمه عُمَر.
إقرأ أيضاً: الفيل والغرفة الزجاجية.. لا نقصد لبنان
لم يظنّ للحظة واحدة أنّه سيكون لعبة يلهو بها الكبار وقت الضجر. أنّهم سيرمونه إلى حتفه. فأمثاله وقود في أيام البرد والشتاء، واحتراقهم خير، وليس بِضَرَر.
قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “لو كان الفقرُ رجلاً لقتلته”. عذراً إمامنا أبا الحَسَنين، لم نقتل الفقر، بل قتلنا عُمَر.
عمر بعد دفنه وانتهاء الجنازة، سيزور والده في المنام مودّعاً ليسأله سؤالاً واحداً: “والدي حبيبي لما أسميتني عُمَرْ؟”.
*الشاب عمر طيبا البالغ 30 عاماً، هو ابن باب التبانة توفي في مستشفى النيني بطرابلس متأثرا باصابته خلال المواجهات ليلاً بين المحتجين والقوى الأمنية.