في لسان العرب، ارتابَ مِن يرتابُ، ارتيابًا، فهو مرتاب، والمفعول مرتابٌ به. وارتابَ من تصرفاته: شكّ فيها. ارتاب به: اتهمه ورأى منه ما يريبه. هذا الارتياب لغويًّا، وهو إذا كان ينطبق بشكل رئيسي، فعلى المتهمين الفعليين بتفجير مرفأ بيروت، أي الطبقة السياسية قاطبة، عبر التواطؤ والتقصير والفساد المتراكم.
رأى اللبنانيون على مدى سنوات ما يريبهم من السلطة السياسية، وارتابوا بها، أي اتّهموها مباشرة. وارتابوا من تصرّفاتها، أي شكّوا فيها. وهذا أمر لا طعن في مشروعيته، لأنّه صادر عن الناس، عن الشعب مصدر السلطات. من هنا ينطبق مفهوم “الارتياب المشروع”، الذي عُزل بسببه المحقّق العدلي في قضية تفجير المرفأ “فادي صوان”، على الطبقة السياسية مجتمعة، وعلى استقلالية القضاء، وقدرته على تحقيق العدالة من دون تدخّلات سياسية في عمله.
أما “الارتياب المشروع” بمفهومه القضائي، فيستند إلى المادة 340 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، حين يرتاب أحد الخصوم من تصرفات قاضٍ ينظر في قضية معينة، ويتحقق الارتياب ويصبح مشروعًا وسببًا كافيًا لنقل الدعوى إلى قاضٍ آخر، في حال قيام القاضي بتصرفات أو أصدر قرارات واتخذ تدابير تثير الريبة والشك في حياده، وتدلّ بصورة واضحة على تحيّزه وجنوحه، إلى تأييد مصالح أحد فرقاء الدعوى على حساب باقي الأطراف فيها، على نحو يتعارض ومبادئ العدالة ويتنافى ورسالة القاضي، فيشكل نكثًا في قسَمه المِهْني.
رأى اللبنانيون على مدى سنوات ما يريبهم من السلطة السياسية، وارتابوا بها، أي اتّهموها مباشرة. وارتابوا من تصرّفاتها، أي شكّوا فيها. وهذا أمر لا طعن في مشروعيته، لأنّه صادر عن الناس، عن الشعب مصدر السلطات
ومفارقة “الارتياب المشروع” الذي نحن في صدده في قضية تفجير المرفأ، أنّه صادر عن وزير الأشغال العامة والنقل الأسبق غازي زعيتر، ووزير المالية السابق علي حسن خليل، وهما يرتابان بالمحقّق العدلي بسبب “الاستعراض وتنفيذ أجندة سياسية”، وهذه الأخيرة يبرع فيها تمامًا الوزيران زعيتر وخليل، ولا ينقصهما الاستعراض في خلال تنفيذ أجندتهما.
ولا يحيد طلب نقل الملف من يد صوّان بدعوى “الارتياب المشروع” عن هذين الاستعراض والأجندة. والأنكى أنّ سبب النقل كما سطّرته محكمة التمييز – الغرفة السادسة الجزائية، استند إلى أنّ منزل القاضي صوان أصيب بالانفجار، وهو بحسب قرار النقل “متضرّر شخصيًّا من الجريمة التي ينظر فيها، وبالتالي فقد أصبح معنيًّا بهذا الموضوع وأصبح له مصلحة شخصية، ويجعله على خصومة فعلية مع المتهمين بالتسبب أو ارتكاب الفعل”.
وفي هذه النقطة التي استند إليها قرار نقل صوّان، يمكننا تخيّل السيناريو فيها لو كان قصر العدل موجودًا في محيط عصف الانفجار، وتضرّر القصر والقضاة من التفجير، كيف كانت العدالة لتستقيم إذا قرر المتهمون بالتفجير عزلها لأنّها متضرّرة من التفجير الذي لم يميّز بشظاياه وعصفه وأضراره، بين لبناني وآخر، وبين لبناني وغير لبناني، لا بل لم يترك بشرًا أو حجرًا من شرّه.
إقرأ أيضاً: القضاء يرفع “الريغار” عن سارقي “موجودات” الدولة!
بيروت كلّها تضررت من التفجير. ووصلت أضراره الاقتصادية إلى كلّ لبناني في الوطن و”الانتشار” كما يحلو للعونيّة السياسية تسميتها. انتشر ضرر التفجير ليطال الجميع، وهو ما يجعل من الاستحالة في مكان إيجاد قاضٍ لم يتضرّر من التفجير وغير “معني بهذا الموضوع”، الذي يُفترض أنّه يعني كلّ لبناني، خصوصًا أنّ أضراره لا تقتصر على الأرواح والماديات، بل تتخطّاها إلى مستقبل البلاد بأسرها.
من هنا يبرز “ارتياب مشروع” بقرار النقل. وبالتعليل القائم عليه. وبالتدخل السافر من سياسيين نافذين بعمل القضاء.
يقول العرب وأصل القول شعري: “كاد المريب أن يقول خذوني”. بل: كاد “المُرتاب” أن يقول خذوني.