يعمل القضاء اللبناني بانتظام. كلّ ما قيل ويقال عن تقصيره في ملفات تتعلق بالفساد وباسترجاع حقوق الدولة عارٍ من الصحة. كلّ ما قيل ويقال عن تلكّؤ في المحاسبة وملاحقة الفاسدين تدحضه الوقائع المثبتة بالمستندات. وما كنت لأكتب هذا الكلام لو لم أحصل على مستند يبيّن بوضوح شجاعة القضاء اللبناني في وضع الفاسدين عند حدّهم، وملاحقة جميع من تسوّل لهم أنفسهم مدّ أيديهم على أملاك الدولة ومالها العام. صحيح أنّ الأملاك البحرية مصادرة، وصحيح أنّ المال العام منهوب، وصحيح أنّ المصارف سطت على أموال اللبنانيين بتغطية من هندسات مصرف لبنان، وصحيح أنّ نيترات الأمونيوم فجّرت المدينة، لكن الإنصاف يستدعي الإضاءة على دور القضاء الفاعل في بسط سلطة الدولة وانتظام العدالة. ويجب ألا نقف عند تفاصيل صغيرة كمثل الاستنسابية او تدخّل السياسة بعمله، ولا في تمرّد السياسيين عليه. هذه أمور بسيطة يجب ألا تعمينا عن رؤية فعالية القضاء في القضايا المصيرية التي تتهدد الدولة.
فبعيداً عن الإعلام، وبعيداً عن الضجيج، وفي خطوة جريئة، أصدر قاضي التحقيق في جبل لبنان نديم الناشف قراراً بناءً على ادّعاء النائب العام في جبل لبنان غادة عون، بتوقيف “عصابة” مؤلفة من ثلاثة شبان، أكبرهم من مواليد العام 1990 وأصغرهم من مواليد العام 2001 (أي أنّهم ولدوا وكبروا ورياض سلامة هو حاكم مصرف لبنان)، تقوم بـ”سرقة أغطية قنوات المياه والصرف الصحي أو ما يعرف بالريغارات في منطقة الدبية عائدة ملكيتها للدولة اللبنانية”. واعتبر أفعالهم “من نوع الجناية المعاقب عليها في المادة 638 من قانون العقوبات”.
ما كنت لأكتب هذا الكلام لو لم أحصل على مستند يبيّن بوضوح شجاعة القضاء اللبناني في وضع الفاسدين عند حدّهم، وملاحقة جميع من تسوّل لهم أنفسهم مدّ أيديهم على أملاك الدولة ومالها العام
هذه المادة من قانون العقوبات تنصّ على معاقبة مرتكب السرقة “إذا وقعت على أموال أو موجودات مؤسسة حكومية أو مكتب لإدارة رسمية أو هيئة عامة”، أو إذا وقعت على “أموال وموجودات مصرف”، واعتبر القاضي “الريغارات” من موجودات المؤسسات الحكومية، وتحديداً وزارة الأشغال التي تسجّل سجلاً ناصعاً في ضبط موجوداتها وحمايتها من السرقة والتلاعب والمحسوبيات.
والوزراء المتعاقبون على الوزارة بيّنوا عن حرص كبير في هذا المجال على مرور السنين، فلم تسجّل أي حادثة تلاعب أو سرقة في موجودات الوزارة، ولا في الزفت الإنتخابي (لا سمح الله) ولا في موجودات المطار والسوق الحرة، ولا في تنظيف “الريغارات” حتّى لا تطوف في كل شتاء كما يحدث في بعض البلدان التي يتراكم الفساد في مجاريها فيغرقها عن بكرة أبيها.
إقرأ أيضاً: سليم عيّاش فجّر مرفأ بيروت.. وخلصنا
قبض القاضي، وقبله القوى الأمنية، على مكمن أساسي من مكامن الفساد في البلاد. وجرى اعتقال العصابة المسؤولة عن سرقة “موجودات” الدولة. ولا نستبعد أن تُظهر التحقيقات، مع التقدّم فيها، ضلوع هؤلاء الشبان الثلاثة في سرقة أموال المودعين وتهريب ودائع بالمليارات إلى خارج لبنان. لا ندري ما الذي دار في التحقيقات، وكيف اعترفت العصابة المجرمة بفعلتها. لكنّنا نعرف أنّ القوى الأمنية “ضبطت ريغارات مسروقة عديدة في منزل المدعى عليه الأوّل”. وعلى الغالب كان المجرم الخطير سيحاول بيعها لدولة عدوّة، كإسرائيل مثلاً، التي تعبث بأمننا الداخلي وتسدّ مجاريرنا وتغرق طرقاتنا بالنفايات. يمكن إحالة الشبان الثلاثة إلى جهاز “أمن الدولة” وسيتكفّل باستخراج اعترافات منهم بأنّ مشغّلهم الإسرائيلي دفعهم إلى سرقة الريغارات لتهريبها إلى العدوّ الصهيوني الذي تعاني بنيته التحتية من نقص في أغطية الريغارات.
هو إنجاز جديد يضاف إلى إنجازات القضاء اللبناني الذي بسلطانه واستقلاليته وعدالته لا يسمح لأيّ كان بالاستخفاف بهيبة الدولة وريغاراتها. وهذه رسالة واضحة من القضاء إلى كلّ الفاسدين بأن لا أحد فوقه غطاء… أو ريغار!