لربما مرّ شريط الذاكرة سريعاً في ذهن رياض سلامة وهو في طريقه إلى مكتب المدعي العام التمييزي غسان عويدات.
كانت لحظةً “تكنوقراط” حالمة حين ترأس مليادير مقتدر الحكومة في موسم انفراجٍ إقليمي ودولي، ليأتي بشابٍ في أوائل الأربعينات من عمره، من منصبه المرموق جدَاً في واحد من أشهر البنوك الاستثمارية في العالم، ليعيّنه حاكماً لمصرف لبنان.
اختزلت تلك اللحظة كل السرديّات الرومنسيّة عن تفوّق اللبناني ونجاحه العالمي، وقدرة الفينيق على القيامة من تحت الرماد. تلك السرديّة كانت جوهرَ مشروع رفيق الحريري، والأساس الذي قامت عليه منحه التعليمية. إذ من دونها لم يكن ممكناً اجتذاب استثمارات المغتربين وطاقاتهم وانخراطهم في النهوض الاقتصادي.
حتى وقتٍ قريب، كان بالإمكان المجادلة بأن “قبول” رياض سلامة بمنصب الحاكم إنجاز حريري، وفي هذا شيء من منطق سوق العمل. الآن، يُطرح اسم الرئيس التنفيذي للخدمات المصرفية العالمية والأسواق في HSBC سمير عساف للحاكمية؛ لكن من يضمن قبوله بالمنصب ما لم تكن هناك حكومة توفّر حداً مقبولاً من شروط النجاح؟
أراد رفيق الحريري الاستناد إلى منظومة رشيقة في قلب القطاع العام وخارجه وعلى ضفافه، في موازاة الجهاز الحكومي المترهّل. فكان مجلس الإنماء والإعمار وسوليدير وأوجيرو وما أمكن ضمه إليها. لكن سلامة لم يكن كأيٍّ من الذين أتى بهم الحريري إلى الدولة. كان في المخيال العام “تكنوقراطاً” خالصاً لا يعتريه ولاء سياسي. حتى اسمه كان أشبه ببطل مسلسل لبناني من كتابة شكري أنيس فاخوري. خرج رفيق الحريري من الحكم عام 1998 وعام 2004، ثم قتل عام 2005، وأُخرج ابنه من الحكم عام 2010، وظل سلامة “التكنوقراط” في كل تلك المحطات حارساً للاستقرار النقدي. وليس من قبيل الصدف أن ثلاثاً من ولاياته الخمس على رأس المصرف المركزي كان قرار تعيينه فيها من حكومات غير حريريّة: حكومة سليم الحص في 1999، وحكومة نجيب ميقاتي “المحايدة” في 2005، وحكومة ميقاتي (اللون الواحد) في 2011.
الآن، يُطرح اسم الرئيس التنفيذي للخدمات المصرفية العالمية والأسواق في HSBC سمير عساف للحاكمية؛ لكن من يضمن قبوله بالمنصب ما لم تكن هناك حكومة توفّر حداً مقبولاً من شروط النجاح؟
لكنّ سلامة اليوم هو أساس الاصطفاف في البلد. يُنسب هو إلى الحريريّة، ليُختزل إرث رفيق الحريري بالاستدانة والفوائد المرتفعة والتثبيت المكلف لليرة والكلام (الفارغ) عن تشجيع الاقتصاد الريعي على حساب القطاعات المنتجة. ويُنسب إليه سعد الحريري، لتحميله مسؤولية الهندسات المالية ومحاباة البنوك وضياع الودائع وانهيار سعر الصرف.
العلاقة بين الحريرية و”السلاميّة” إشكالية بلا شك، لكنها سهلة الفهم. كانت معادلة الحريري واضحة؛ كان يريد بيروت مركزاً إقليمياً للأعمال والسياحة على صورة ما هي عليه دبي الآن، وذلك من خلال جملة ركائز، أولها تشجيع تدفق الاستثمارات من الخارج، على نحو ما حدث في وسط بيروت، وثانيها رفع مستوى البنية التحتية، على كثرة من يريدون ثمناً (فاسداً) لذلك، وثالثها الاستقرار النقدي للحفاظ على القدرة الشرائية.
لذلك كان الحريري بحاجة إلى سلامة، لكن ما أثبتته الأيام أن سلامة ما كان لينجح من دون رفيق الحريري. ما كان له أن يثبت سعر الصرف لولا تدفق الاستثمارات والتحويلات في ظل ورشة الإعمار في التسعينات. وما كان له أن يستمر لولا مؤتمري باريس 1 و2، عامي 2001 و2002. لكن في المقابل، ما كان لماليّة الدولة أن توفر خطوط التمويل الخارجي والداخلي لولا الكفاءة المصرفية- الاستثمارية لذلك الآتي من “ميريل لينش”.
خُلِقَ سلامة لزمان غير هذا. لم يُخلق ليكون ناظماً رقابياً يدير المخاطر بحصافة، بل لزمان تتدفق فيه الأموال. أتى من مصرف استثماري عالمي المخاطرة في صميم جيناته، وقد دفع المصرف ثمنها لاحقاً في أزمة 2008 – 2009، حتى انتشله “بنك اوف أميركا” واستحوذ عليه في صفقة بلغت 50 مليار دولار. (ألغيت العلامة التجارية لـ “ميريل لينش” العام الماضي، واستبدلت بـ “ميريل”، كوحدة تابعة لبنك أوف أميركا). ولا غرابة في أن سلامة أدار مصرف لبنان كما لو أنه رئيس تنفيذي لبنك استثماري؛ احترف جمع الأموال وتوزيع العوائد وربط مصالح “العملاء” بمصالحه.
العلاقة بين الحريرية و”السلاميّة” إشكالية بلا شك، لكنها سهلة الفهم. كانت معادلة الحريري واضحة؛ كان يريد بيروت مركزاً إقليمياً للأعمال والسياحة على صورة ما هي عليه دبي الآن
سقط رياض سلامة. لم يعد مهماً كم من الوقت سيبقى في منصبه. بات أقصى ما يطمح إليه أن يذهب إلى بيته سليماً في سجلّه العدلي، معافىً في تاريخه.
قُتِلت سرديّة التكنوقراط اللبناني فيه. باتت جائزتا “ذا بانكر” و”يورومني” لأفضل محافظ بنك مركزي في العالم مادّة للتندّر. كيف لبنك مركزي أن يحمل مطلوبات للبنوك المحلية، ومن ورائها للمودعين، بثمانين مليار دولار، فيما لا تتجاوز موجوداته الأجنبية نصف هذا المبلغ! كيف له أن يدفع تلك الفوائد الباهظة بالعملة الأجنبية ويراكم كل تلك الخسائر على مدى سنوات من دون أن يرفّ له جفن!
إقرأ أيضاً: ليومٍ كهذا وُجِد “ذهب” الياس سركيس
بإمكانه أن يردد مقولاته المعروفة، أن يعلّق انهيار الليرة على الفشل السياسي وحروب المحاور في المنطقة واهتراء الدولة وجشع اللصوص، لكنّ صورة “اللبناني الخالص” تحطّمت، وحلّت مكانها أنباء التحقيقات السويسرية، والوثائق المسربة عن حيازاته. باتت صورته في صميم هذا الاهتراء والفشل.
أمام الحريريّة اليوم مشكلتان: الأولى في القدرة على التخلي عن رياض سلامة، والثانية في التعامل مع تبعات سقوطه، في المستوى السياسي على الأقل.
المشكلة الأولى نابعة من اعتقاد شائع بأن رياض سلامة أنقذ مصارف كثيرة عبر الهندسات المالية، وأن الموقف المساند لسلامة لا يفسّر إلا في هذا السياق، والثانية من أن هناك من سيتعامل مع سقوط سلامة على أنه انتصار سياسي لفريقه ومنطقه.
ما لم تُحل هاتان المعضلتان سيظل سعد الحريري يدافع عن سلامة، ومن يدري ما تكون النتائج!