ليومٍ كهذا وُجِد “ذهب” الياس سركيس

مدة القراءة 7 د


كان الياس سركيس محامياً وسيماً في مطلع عقده الرابع حين أصبح حاكم مصرف لبنان عام 1967. لم يكن الرجل خرّيج هارفرد، وليس له سابق خبرة في “ميريل لينش”، لكنّه اتّخذ أغرب قرارٍ يمكن لحاكم بنك مركزيٍ أن يتّخذه في تلك الحقبة من تاريخ السياسات النقدية.

كان العالم يعيش حقبة الكفر بالذهب، حين جعل سركيس بلده الصغير ثاني أكثر دول العالم امتلاكاً للمعدن الأصفر، كنسبةٍ إلى عدد السكان، بعد سويسرا. وما زال حتّى اليوم يحافظ على هذا الموقع بمعدل 47 غراماً لكلّ مواطن!

يقول الباحثان المرموقان Eric Monnet  و Damien Puyفي ورقة عمل نشرها صندوق النقد الدولي العام الماضي، إنّ محافظي البنوك المركزيّة الأصغر سنّاً في عقد الخمسينات من القرن الماضي، لم يكونوا يُلقون بالاً لـ”معيار الذهب”، إذ لم تعد له أهمية كغطاء نقدي منذ توقيع اتفاقية بريتون وودز عام 1944، بينما كان المحافظون “العواجيز” من مواليد أواخر القرن الثامن عشر هم من يقودون تيّار العودة إلى تجميعه بكميات كبيرة إلى جانب الدولار.

الياس سركيس الشاب في حينه كان ذا “دقّة قديمة” في أفكاره النقدية. وكان كالمحافظين “العواجيز”، مقتنعاً بأنّ الذهب يحتفظ بقيمته. لم يكن صاحب نظرية خاصّة، ولم يُعرف عنه أنّه داهية الهندسات المالية، لكنّه كان نقيّ الحدس ومخلص النيّة في تخليص دولارات ذلك الزمان من أن يأكلها التضخّم والفساد.

كانت لحظة دراميّة في تاريخ لبنان المالي حين وصلت حيازات الذهب التي اشتراها سركيس إلى 287 طناً في العام 1971، وإذ بالرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون يأخذ قراره الصاعق بإلغاء قابلية التداول بين الدولار والذهب للمرة الأولى في التاريخ، لتنهار اتفاقية “بريتون وودز” الموقعة عام 1944 بعد ذلك بعامين، وتسقط عن الذهب للمرّة الأولى منذ آلاف السنين صفة النقد أو الغطاء للنقد. وبات النقد الذي تتداوله البشرية مجرّد أوراق دين تصدرها البنوكٌ المركزية (fiat money)، ولا قيمة لها سوى بالقدر الذي تحظى به تلك البنوك من ثقة.

الياس سركيس الشاب في حينه كان ذا “دقّة قديمة” في أفكاره النقدية. وكان كالمحافظين “العواجيز”، مقتنعاً بأنّ الذهب يحتفظ بقيمته

لا شك أن سركيس لم ينم تلك الليلة، فهو بالتأكيد لم يكن ليتوقّع تلك الصدمة، بدليل أنّه توقف عن شراء الذهب بعد قرار نيكسون، ربما لأنّه لم يكن قادراً على التنبّؤ بمستقبل الذهب بعد ذلك: هل يفقد قيمته أم تنخفض قيمة العملات مقابله بفعل عامل التضخم؟

أتى الجواب سريعا بارتفاع صاروخي لسعر الذهب ليتجاوز المئة دولار بعد أقلّ من عامين. ما كان للحظّ أن يحمل للبنان أفضل مما فعله سركيس. فاليوم، بعد نصف قرن من فعلته، يقارب سعر الأونصة 1900 دولار، أي 60 ضعف ما كان عليه حين اشترى لبنان الكمية الأكبر من احتياطياته. جعلت سياسة سركيس من كل دولارٍ في ذلك الزمان 60 دولاراً في عصرنا الحاضر.

لكن إذا كان شراء الذهب في الخمسينات “دقّة قديمة”، فماذا يسمّى في القرن الحادي والعشرين؟

واقع الأمر أنّ كثيرين يعتبرونه كذلك وأكثر، لكن لأسباب مختلفة من كل ما سبق في السنوات السبعين الماضية. ففي العالم جيل شاب من المستثمرين يعتبر الذهب “أصلاً” كلاسيكياً تجاوزه الزمن. ذلك أن القيمة في عصر المعلوماتية لم تعد محصورةً في ما له وزنٌ وبريق أصفر. يكفي أن يقوم مبرمج مجهول الهويّة، يُقال إن اسمه ساتوشي ناكاموتو، باختراع خوارزميّة في العالم الافتراضي لتصبح هناك عملة اسمها “بيتكوين” تفوق قيمتها في السوق 430 مليار دولار. وثمة من يؤمن جدياً أن هذا “اللاشيء” يصل أن يكون ملاذاً آمنا بديلاً للذهب.

مع ذلك لا تزال العديد من البنوك المركزية تؤمن بالذهب، ولو أنّ بعضها يتبنّاه على سبيل التورّط أو الاضطرار. ففي خزائن البنوك المركزية مجتمعة اليوم ما يقارب 35 ألف طن من أصل نحو 198 ألف طن مستخرج في العالم أجمع. أي أنّ البنوك المركزية تحتفظ بنحو 18% من الذهب الموجود في الأسواق. ومنذ العام 2010 حتّى اليوم تزيد البنوك المركزية، كمجموعٍ كلي، مشترياتها من الذهب كل عام بلا انقطاع، وفي العامين 2018 و2019 وحدهما اشترت نحو 1200 طن.

غير أنّ هذا الإيمان بالذهب يساوره شكٌّ وتذبذب. ففي العقود الثلاثة الماضية حصلت موجات بيع في مراحل متعدّدة، استدعت توقيع اتفاقية عام 1999 بين كبرى البنوك المركزية في العالم لوضع سقف لبيع الذهب لا يتجاوز 400 طن سنوياً، لتفادي انهيار سعره، وتم تجديدها بشروط مختلفة ثلاث مرّات في الأعوام 2004 و2009 و2014.

لا شك أن سركيس لم ينم تلك الليلة، فهو بالتأكيد لم يكن ليتوقّع تلك الصدمة، بدليل أنّه توقف عن شراء الذهب بعد قرار نيكسون، ربما لأنّه لم يكن قادراً على التنبّؤ بمستقبل الذهب بعد ذلك: هل يفقد قيمته أم تنخفض قيمة العملات مقابله بفعل عامل التضخم؟

وحتّى صندوق النقد الدولي الذي كان الذهب في أساس نظامه، قام بعمليات بيع ضخمة من مخزوناته في العامين 2009 و2010، تجاوزت 400 طن، أي ما يعادل ثمانية في المئة من احتياطاته الذهبية، لا لشيء إلا لتوفير السيولة النقدية ليقرض الدول الأكثر فقراً.

بات الذهب جزءاً من مزيج منوّع من الأصول الاحتياطية، ولم يعد في عرف البنوك المركزية أصلاً مقدساً غير قابل للبيع، ولا غطاءً للنقد، ولا حافظاً مضمونَ القيمة إلى ما شاء الله.

قداسة الذهب في لبنان ليست نابعة من قيمته، بل من ضآلة قيمة السلطة التي لا تؤتمن على التصرّف به. مع ذلك ليس من الأخلاقي أن يظل لبنان يدفع تكلفة تخزين ستة ملايين أونصة في الولايات المتحدة فيما شعبه يجوع. لم تكن حاجة صندوق النقد الدولي لاستخدام الذهب في 2009 أكبر من حاجة لبنان لاستخدامه اليوم. لكنّ السؤال المفتاحي: من يحقّ له فتح الخزائن وبأيّ شروط ولأيّ وجهة؟

استخدام الذهب ليس حراماً، لكن لا بد من ضمان أن يكون الاستخدام محدوداً ومحدّد المدة وبضمانات وخريطة طريق واضحة لعودته إلى ما كان عليه بعد انتهاء الظروف الاستثنائية، سواء من حيث الكمية أو الوضع القانوني.

لا نقاش في أنّ السلطة السياسية بتكوينها الحالي، وبعدّة شغلها، وبمقارباتها لمواجهة الأزمة، لا تحظى بالثقة لجرد الذهب، فكيف باستخدامه؟ لكن في المستوى النظري أدوات كثيرة يمكن اللجوء إليها برقابة دولية، وبعد التوصل إلى برنامج يوافق عليه صندوق النقد الدولي.

بات الذهب جزءاً من مزيج منوّع من الأصول الاحتياطية، ولم يعد في عرف البنوك المركزية أصلاً مقدساً غير قابل للبيع، ولا غطاءً للنقد، ولا حافظاً مضمونَ القيمة إلى ما شاء الله

مشكلة الذهب بالنسبة للبنوك المركزية تكمن في ضعف سيولته. فبيعه ليس متيسّراً – مثلما هو حال سندات الخزينة الأميركية – كلّما لاحت الحاجة إلى السيولة. وهذا ما يجعل بنوكاً مركزية عدّة تلجأ إلى إيداع الذهب في مراكز مالية أو مراكز لتداول الذهب في لندن ونيويورك وسويسرا، للحصول على سيولة من خلال عقود مبادلة “سواب”. وثمة استخدامات أخرى من خلال الإيداع في ما يسمى “بنوك السبائك”، مقابل فائدة قليلة، لتستخدم في المشتقات المالية مثل صناديق المؤشرات المتداولة ETFs. مثل هذه الحلول لا تكفي لحلّ مشكلة لبنان. فالقانون الصادر عام 1986 لمنع أي شكل من أشكال التصرف بالذهب من دون إذن مجلس النواب، يهدف أساساً إلى عدم تبديد هذا الأصل، وليس مجرد عدم تحويله إلى سيولة. والفضل يعود لرئيس مجلس النواب آنذاك حسين الحسيني.

إقرأ أيضاً: هنري شاوول لـ”أساس”: لا احتياطات في “المركزي” والدعم من ودائع الناس

الأزمة الراهنة تفسيرها العملي أنّ لبنان غير قادر على النفاد إلى أسواق الدين، ولذلك هو بحاجة إلى اللجوء للتمويل الميسّر من صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى والجهات المانحة. يمكن تخطّي الأزمة بتوفير تمويل خارجي بحدود أربعة إلى خمسة مليارات دولار سنوياً على مدى أربع سنوات، لتمويل عجز الحساب الجاري والميزانية العامة وتمكين عملية إعادة الهيكلة المثلثة لديون الدولة ومصرف لبنان والقطاع المصرفي. وهذا يمكن فقط بعد التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي استخدام ثلث الذهب كضمان للحصول على تمويل بتكلفة منخفضة للمالية العامة. لكن لا بد من التنبّه هنا إلى أنّ الذهب مملوك لمصرف لبنان، وهو كيان له شخصيته الاعتبارية المستقلّة، ما يتطلب هندسة مالية تشريعية تتيح ذلك.

فلتكن انتخاباتٌ نيابية يعرف الشعب مسبقاً أنّها لمجلسٍ نيابي جدير بالثقة ليتولّى فتح خزائن الذهب… لمرّة واحدة واستثنائية.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…