سقطت المبادرة الفرنسية، أو خطّة الفرصة الأخيرة، وما زالوا يزعمون أنهم يعملون وفق توجيهاتها. كان من المفترض أن تبصر “حكومة المهمّة” النور قبل وصول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمرة الثانية إلى بيروت عشية الذكرى المئة لولادة لبنان الكبير في 1 أيلول الماضي. ثم ارتضى ماكرون على مضض انتظار نتيجة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة في تشرين الثاني، (ماذا لو فاز ترامب؟ لا أحد يعلم). ثم كان على الجميع انتظار الصراع على صناديق الاقتراع، إلى حين انتقال السلطة رسمياً إلى جوزف بايدن في 20 كانون الثاني. ثم بدا أنّ اللعبة أكبر من الحكومة ومن المهمّة، بل هي رقعة شطرنج على مدى المنطقة، ولبنان فيها ليس سوى بيدق. ثم عدنا إلى المربع الأول، فالأولوية ليست إنقاذ الشعب اللبناني، ولا الاقتصاد المنهار، بل ضمان استمرار “العونية من دون عون” ست سنوات أخرى.
في المرة الأولى، هبّ ماكرون لمساعدة الحريري في أزمته مع المملكة العربية السعودية في 4 تشرين الثاني 2017، وتأمين تعويمه سياسياً، فكان مؤتمر “سيدر” في نيسان 2018. لمؤتمر “سيدر” كما بدا في ذلك الحين هدف ظاهر، وهو إنقاذ اقتصاد لبنان. ثم تبيّن أنّ له هدفاً متلازماً معه، هو تعويم الحريري سياسياً، مع فارق جوهري هو أنّ الدولة الفرنسية الراعية تشدّدت في ذلك المؤتمر وما بعده، على تنفيذ حزمة من الإصلاحات البنيوية الضرورية. لكننا اليوم، وبعد سلسلة من المواقف والمشاهد المتلاحقة من ذلك اليوم، بات الاقتناع أكبر، بأنّ ذلك المؤتمر كان فرصة ذهبية لكامل المنظومة السياسية المترابطة فيما بينها بالتسوية الرئاسية عام 2016 على وجه خاص.
لم يدرك الرأي العام جيداً في كلا معسكري 8 و14 آذار، أنّ تلك التسوية، ليست مجرّد صفقة ثنائية بين طرفين هما الأكثر نفوذاً في الموارنة والسُنة. بل هي كناية عن تكوين عصبية سياسية متينة، صمدت في كثير من المحطات العاصفة، على الرغم من الخلافات العميقة فيما بين أركانها، وهو أمر طبيعي ومتوقع. لذا يمكن القول إنّ بسط الرعاية الفرنسية على الحريري عام 2017 وتنظيم مؤتمر “سيدر” في 2018، كان إنقاذاً فرنسياً ضمنياً لما يسمى بمنظومة الحكم، أو المصفوفة the matrix، ولم يكن هذا ملحوظاً في تلك الأيام الانفعالية. لكن المبادرة الفرنسية لم تكن مجانية. والثمن هو الإصلاح البنيوي في القطاع العام وفي السياسات. بالطبع، لم تكن تلك العُصبة جاهزة، لأنّه يسلبها قاعدتها الشعبية القائمة على الزبائنية الحزبية والطائفية.
لم يدرك الرأي العام جيداً في كلا معسكري 8 و14 آذار، أنّ تلك التسوية، ليست مجرّد صفقة ثنائية بين طرفين هما الأكثر نفوذاً في الموارنة والسُنة. بل هي كناية عن تكوين عصبية سياسية متينة، صمدت في كثير من المحطات العاصفة، على الرغم من الخلافات العميقة فيما بين أركانه
وكما فعلوا بعد انفجار المرفأ في 4 آب 2020، كذلك “تعتعوا” وتلعثموا بعد مؤتمر “سيدر”. استمدّوا من “سيدر” وعود اللبن والعسل، وظائف بمئات الآلاف، ومشاريع بنية تحتية بمليارات الدولارات، وتأبيد مغارة علي بابا من خلال الاستمرار بسعر غير واقعي لليرة. ربحوا الانتخابات بما كانوا يشتهونه بنسبة كافية. ثم بدأت المماطلة. صرفوا ثمانية أشهر قبل تشكيل الحكومة الهادفة لتنفيذ مقرّرات المؤتمر، وبرئاسة سعد الحريري أيضاً. ثم أضاعوا الوقت في تبادل الاتهامات في قضية الفساد. فتشوا عن سبيل لخفض عجز الموازنة ولو شكلياً. تبادلوا فيما بينهم كرة النار. قبل الانتخابات منحوا جيش الموظفين سلسلة الرتب والرواتب، وبعد الانتخابات بدأوا يتداولون باحتمال خفض الرواتب، أو التخلّص من عبء المتقاعدين، أو زيادة الرسوم والضرائب. انتشر القلق وسط القطاعات الرسمية والخاصة. انطلقت أولى التظاهرات المطلبية هنا وهناك. فكان فرض رسم الواتساب هو المخرج العبقري. وهنا انفجر الشارع في 17 تشرين الأول 2019، فتدحرج قطاع المصارف، وانهارت أسطورة الليرة التي لا تُهزم. أما دخول الشارع كعنصر جديد إلى اللعبة السياسية، فقد أشاع في البدء، عدم الثقة بين الحلفاء، وعدم اليقين من الأفق. ترنّحت العصبية الحاكمة، فسقطت الحكومة على الرغم من تزويدها بجرعة “كورتيزون” قوية، هي ورقة الإصلاحات التي لم تلحظها حتى حكومة حسان دياب.
لقد تمكّن الشارع المنتفض بزخمه الهادر العابر للطوائف والمناطق، من زعزعة العصبية السياسية الحاكمة، لكنه لم يتمكّن هو نفسه، من تكوين عصبية منافسة، من أيديولوجية متسقة، ورؤية واضحة، واتفاق صلب على برنامج عمل، فتفكّكت مكوّناته تدريجياً، إلى أن وقع انفجار المرفأ في 4 آب، فكان الضربة الأشدّ على المنظومة السياسية، بحيث تفاقم القلق من لمعان الغضب. فما حدث كافٍ لإسقاط ما هو أكثر من حكومة حسان دياب – البديل المؤقت من العضو الطبيعي في المنظومة – وهو إشعال لثورة أقوى، في أقل تقدير. تلقّف ماكرون الفرصة مرة ثانية. وهو الذي يبحث عن إنجاز سهل في الخارج، لتعزيز صورته السياسية. هنا التقت مصلحتان ظرفيتان، ماكرون من جهة، وأركان النظام اللبناني من جهة أخرى. لكن الذين مَرَدوا على النفاق والخداع، نصبوا لماكرون الذي بدا في غاية السذاجة فخاً أنكى من الأول. أنصتوا باهتمام شديد لمحاضراته في قصر الصنوبر، وكأن على رؤسهم الطير. لم يعترضوا إلا على استحياء. أملى عليهم المطلوب. كان جلّ همّهم أن يمتصّ ماكرون غضب الجمهور المسيحي الغاضب، بكلماته القمينة بشتى التأويلات، تارة مع الثورة وتارة ضدّها، تارة مع السياسيين، وتارة هو ضدّهم. فأشبع رغبات صامتة وناطقة لدى جمهور واسع من الثوار، في استجلاب وصاية أجنبية للتخلّص من الطبقة السياسية التي وصفوها بأبشع النعوت. لكنهم لم يلحظوا خفضه التدريجي من سقف التوقّعات. دعا أولاً إلى انتخابات مبكرة خلال عام، وورد هذا البند في خارطة الطريق لاحقاً، لكنه ما بين المنطوق والمكتوب، سحبه فوراً من التداول، داعياً الثوار في الوقت نفسه إلى الاستعداد للانتخابات النيابية المبكرة الآتية، واختفى هذا البند حتى من ورقة العمل، بناء على طلب النائب محمد رعد ممثل حزب الله على طاولة قصر الصنوبر.
لقد تمكّن الشارع المنتفض بزخمه الهادر العابر للطوائف والمناطق، من زعزعة العصبية السياسية الحاكمة، لكنه لم يتمكّن هو نفسه، من تكوين عصبية منافسة، من أيديولوجية متسقة، ورؤية واضحة، واتفاق صلب على برنامج عمل
جلّ ما كانوا يريدونه، هو تبريد الأعصاب وتمرير الوقت. فتحمّلوا بكثير من ضبط النفس إملاءات ماكرون عليهم، وكأنه المندوب السامي الفرنسي المنبعث بعد مئة عام بالتمام والكمال. قال لهم: “عليكم أن تشكّلوا حكومة مهمّة بأقصى سرعة، بحيث تبعث الثقة في الشارع. تتألف هذه الحكومة من أفراد لا غبار عليهم، ومعروفين بكفاياتهم. وتعمل على نحوٍ خاص على قطاعات المال والطاقة والاتصالات والأشغال العامة والصحة. تمتدّ ولاية هذه الحكومة لسنة على الأكثر موعد الانتخابات النيابية المبكرة. وعلى البرلمان أن يصدر القوانين اللازمة بشأن إصلاح ميزانية الدولة، والرقابة على الحسابات المصرفية، وتنظيم المشتريات العمومية، والبدء بالتدقيق المالي وفق الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وأن يقوم حوار مع المجتمع المدني. وعلى البرلمان أن يجتمع ويناقش الحكومة في الإجراءات الأساسية التي من المفترض أن تتولاها في الأشهر القادمة”.
من الملاحظ هنا أنّ الورقة الفرنسية لم تلحظ أبداً دور النازحين السوريين – ولو المحدود – في انهيار الاقتصاد، وهو كان العنوان الأبرز في مؤتمر “سيدر” عام 2018، سواء في كلمة رئيس الحكومة سعد الحريري آنذاك أو في كلمة الرئيس ماكرون!
إقرأ أيضاً: الوصاية الدولية.. الخوري وعربيد: لتدويل فرنسي للبنان
ليس السؤال الآن هو هل سقطت المبادرة الفرنسية، بل الأجدى التساؤل عن كيفية إسقاطها منذ اللحظة الأولى، في مسار مبرمج، بدأ بتأخير البدء بالاستشارات النيابية الملزمة، ثم في تسمية السفير مصطفى أديب، بعد تدخل فرنسي مباشر، قبيل زيارة ماكرون الثانية. ثم إخراج أديب من المعادلة بعد انتهاء مهمته، وهي تمرير الزيارة. ثم استعادة الحريري إلى المنظومة، بعد الاطمئنان إلى خمود الشارع ويأسه. وبعد ذلك، افتعال قضية وزير المال والتوقيع الشيعي على المراسيم. ومع اجترار الأيام، عاد الكلام تدريجياً إلى حصص الأحزاب السياسية، ولو عن طريق الاختصاصيين. ومع توالي العقوبات الأميركية على حلفاء الحزب، وآخرهم النائب جبران باسيل، أصبحنا في مربع تشكيل حكومة سياسية كاملة الأوصاف مع بدء العدّ التنازلي لولاية الرئيس ميشال عون.
أين ماكرون من كلّ هذه الدوّامة؟
يبدو أنّ تلميذ فيلسوف التأويلية بول ريكور، لم يقرأ مقدّمة ابن خلدون، كي يدرك تماماً كيف تُلعب السياسة في الشرق!