خبر (غير) سار: دين الدولة انخفض إلى النصف

مدة القراءة 6 د

كان الدين العام (الحكومي) أساس الأزمة المالية والمصرفية الطاحنة، لكن بعد 16 شهراً، يبدو وكأن الدين العام بات أهون المشاكل مع انهيار سعر الصرف والإقرار الرسمي بالاتجاه نحو التعويم، فيما أصعب الأزمات في مصرف لبنان، الذي يجرّ وراءه أزمة أكبر في البنوك وفي ودائع الناس.

بحسب آخر بيانات وزارة المالية، بلغ “صافي” الدين العام في نهاية تشرين الأول الماضي قرابة 74 ألف مليار ليرة بالعملة المحلية ونحو 35.6 مليار دولار بالعملة الأجنبية، معظمها سندات اليوروبوندز التي توقفت الدولة عن سداد استحقاقاتها وفوائدها في آذار 2020. الدين المحلي يساوي نحو 50 مليار دولار وفق سعر الصرف الرسمي، لكنه لا يساوي أكثر من 9 مليارات دولار وفق سعر الصرف في السوق الموازية. ما يجعل مجموع الدين العام لا يتجاوز 45 مليار دولار وفق سعر الصرف الواقعي، أي نصف ما كان عليه في بداية الأزمة. وبما أن الدولة أوقفت السداد وأعلنت اعتزامها التفاوض مع الدائنين، فيمكن توقّع خصم نسبة من الدين العام بالعملة الأجنبية تتراوح بين 55% وفق أكثر التوقعات تفاؤلاً من وجهة نظر حاملي السندات، و75% وفق ما تشير إليه خطة حكومة حسان دياب. هذا يعني أن دين اليوروبوندز يمكن نظرياً أن ينخفض إلى 10 مليارات دولار بنتيجة التفاوض مع الدائنين، هذا إذا بدأ التفاوض(!)

وفق سعر الصرف “الواقعي” لم يعد دين الدولة بالليرة يساوي أكثر من 9 مليارات دولار

هل يمكن اعتبار ذلك خبراً إيجابياً؟ ليس تماماً. فما يعوّل عليه هو نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهذا الناتج انخفض وفق بعض التقديرات من 50 مليار دولار إلى أقل من 20 ملياراً في 2020، وبالتالي فإن الدين العام ما زال يشكل أكثر من ضعف حجم الاقتصاد في الوقت الراهن.

 

ورطة مصرف لبنان

لكن المشكلة ليست هنا، بل في مصرف لبنان الذي لا يُعرف شيء عن حجم ورطته في المطلوبات بالعملة الأجنبية. البيانات الرسمية تشير إلى أن حجم ودائع البنوك التجاري لديه يقارب 156 ألف مليار ليرة، كما في نهاية تشرين الثاني 2020، أي ما يزيد قليلاً على 103 مليارات دولار. مصرف لبنان لا يكشف للعامّة كم من هذه الديون عليه بالدولار وكم منها بالليرة، لكن تقديرات وكالات التصنيف والمؤسسات الدولية تقدّر ودائع البنوك الدولارية لديه بما يتراوح بين 60 و70 مليار دولار، من ضمنها الاحتياطي الإلزامي البالغ نحو 17 مليار دولار. في المقابل، تبلغ موجودات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية 19 مليار دولار تقريبا، عدا الذهب الذي تبلغ قيمته 16 مليار دولار، ومحفظة اليوروبوندز.

الورطة الكبرى في مصرف لبنان الذي لا يُعرف حجم المطلوبات عليه بالدولار

هذا يشير إلى أن مصرف لبنان يواجه فجوة ضخمة بين ما لديه من موجودات وما عليه من مطلوبات. هنا المشكلة التي يعيش حاكم مصرف لبنان حالة نكران تجاهها. فقد كرر سلامة في إطلالاته الأخيرة القول إن دولارات البنوك ليست لديه، وزعم أنه سدد للبنوك كامل ما أودعته لديه منذ يوليو 2017، وفوقها 13 مليار دولار، من دون أن يوضح المتبقي في ميزانيته من مطلوبات دولارية. والجدير بالذكر أن حجم ودائع البنوك لدى مصرف لبنان كان في تموز 2017 بحدود 130 ألف مليار ليرة، أي ما يعادل 86 مليار دولار، مقارنة بـ 156 ألف مليار ليرة حالياً، لكن أياً من الرقمين لا يمكن استنتاج الكثير منه لأنه لا يميز بين ما هو بالليرة وما هو بالدولار.

 

مصير الودائع

نأتي إلى الأهم، وهو ودائع الناس في البنوك. المصارف اللبنانية مدينة لزبائنها بودائع تصل قيمتها إلى 146 مليار دولار، أكثر من 80% منها بالدولار، أي نحو 117 مليار دولار. وقد انخفض مجمل الودائع على مدار شهور الأزمة بما يقارب 29 مليار دولار، فيما انخفضت الودائع الدولارية بنحو 13 مليار دولار.

في المقابل ماذا لدى البنوك من دولارات؟ لديها محفظة يوروبوندز بـ 9.9 مليار دولار، ولديها محفظة قروض بـ 35 مليار دولار، لا يعرف كم منها بالليرة اللبنانية وكم منها بالدولار، ولا تعرف نسبة التعثرات فيها، ولديها أيضاً الودائع لدى مصرف لبنان، ولديها موجودات خارجية بنحو 13 مليار دولار. وكل هذه الأصول الدولارية لا تغطي بأي حال حجم الودائع، وبالتالي فإن فجوة الملاءة واضحة.

حتى لو سددت الدولة كامل ديونها بانتظام لن يحلّ ذلك مشكلة البنوك والمودعين

مشكلة البنوك الكبرى هي في سوء إدارة للمخاطر إلى حدّ عجيب مريب من الاستهتار، لدى إدارات المصارف ومصرف لبنان. فالبنوك دأبت لسنين طويلة على مراكمة مطلوبات بالدولار مقابل قاعدة موجودات بالليرة، متجاهلة أبسط قواعد الحصافة في إدارة المخاطر. ليكتشف الجميع في النهاية أن هذا الدولار المحلي مجرد وهم، أو “لولار”، وفق التعبير المصرفي السائد. على سبيل المثال، يبلغ حجم محفظة البنوك من التسليفات للقطاع العام بالليرة نحو 33 ألف مليار ليرة (كان أكثر من ذلك بكثير قبل الأزمة)، وهذا الرقم تسجله البنوك في موجوداتها 22 مليار دولار وفق سعر الصرف الرسمي، في حينه لا يساوي حقيقة أكثر من أربعة مليارات دولار، أي أنها تنفخ موجوداتها بنحو 18 مليار دولار وهمية. والأمر نفسه يسري على توظيفاتها لدى مصرف لبنان. هنا ستقع الكارثة في حال تم تعويم سعر الصرف الرسمي.

لا بد أن يُسأل رياض سلامة عن هذه المهزلة. فأي من الدول المتقدمة والمتخلفة تسمح بمراكمة مثل هذا الانكشاف الخارجي في قاعدة المطلوبات، والخلط بين الليرة والدولار في قاعدة الموجودات كما لو أن تثبيت سعر الصرف معطى لا شكّ فيه على الأبد؟

إقرأ أيضاً: لبنان والبنك الدولي: السلطة تسرق دولارات قرض الفقراء

خلاصة القول: هل يمكن للمودعين أن يحلموا باستعادة أموالهم في أية عملية إعادة هيكلة للقطاع المصرفي؟ الجواب الواضح لا، لأنه حتى لو أدت الدولة كل ما عليها من ديون بالليرة والدولار، لن تستعيد البنوك ملاءتها في حال تعويم سعر الصرف، لأن المشكلة الأكبر هي في توظيفاتها بالليرة، وفي الثقب الأسود لدى مصرف لبنان.

مشكلة البنوك الأساسية تكمن في مراكمة مطلوبات بالدولار فيما معظم توظيفاتها بالليرة

لكن بالتأكيد، ما زال بالإمكان إعادة شيء من قيمة الودائع مع خصم نسبة معقولة منها، لكن ذلك يتطلب أولاً، وقبل أيّ شيء إعادة التوازن إلى ميزان الحساب الجاري للبلاد، من خلال اتفاق مع صندوق النقد الدولي. ويتطلب أيضاً تأهيل ثلاثة أو أربعة “بنوك جيدة”، لتعود إلى ممارسة العمل المصرفي الطبيعي، ليصبح بالإمكان استعادة شيء من حركة الأموال الواردة من الخارج.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…