لبنان والبنك الدولي: السلطة تسرق دولارات قرض الفقراء

مدة القراءة 5 د

يلفّ الصمت مصير اتفاقية قرض البنك الدولي بقيمة 246 مليون دولار، المخصّص لشبكة الحماية الاجتماعية، فيما تبدو الأجواء الحكومية والسياسية في لبنان عاجزة عن اتخاذ قرار يضع ملفّ الدعم على مسار واضح.

القرض الموعود لا يشكل سوى نصف التكلفة الشهرية للدعم وفق المنظومة الحالية، ولذلك من المستبعد تماماً أن يمنحه البنك الدولي للبنان “على بياض” من دون تغيير جذري في هذه المنظومة.

رؤية البنك الدولي تقوم على إطلاق منظومة واسعة النطاق للإعانات النقدية (BC-CT)، تغطي في السنة الأولى 80% من الشعب اللبناني، على أن تتقلص تدريجياً إلى 30% على مدى خمس سنوات. وتكون الإعانة بقيمة 50 دولاراً شهريا للكبار من عمر 23 عاماً فما فوق، و25 دولاراً لمن هم دون ذلك، ثم تتقلص في السنتين الثانية والثالثة إلى 40 دولاراً للكبار و20 دولاراً للصغار، ثم إلى 30 دولاراً للكبار و15 للصغار في السنتين الرابعة والخامسة.

 

إلغاء الدعم

تترافق الإعانات مع إلغاء الدعم المقدّم من مصرف لبنان على ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: رفع الدعم عن السلّة الغذائية الخاصة بوزارة الاقتصاد، وعن الوقود، باستثناء فيول كهرباء لبنان، اعتباراً من مطلع 2021.

المرحلة الثانية: رفع الدعم عن فيول كهرباء لبنان، بالتزامن مع رفع تعرفة الكهرباء، اعتباراً من مطلع 2022.

المرحلة الثالثة: رفع دعم مصرف لبنان عن أسعار الدواء، بالتزامن مع توسيع التغطية العلاجية للمواطنين اللبنانيين، اعتباراً من مطلع 2023.

يقدّر البنك الدولي تكلفة الإعانات المقترحة بـ1.5 مليار دولار في السنة الأولى، على أن تنخفض إلى 964 مليون دولار في السنة الثانية، ثم 620 مليوناً في الثالثة، و465 مليوناً في الرابعة، و311 مليوناً في السنة الخامسة.

القرض الموعود لا يشكل سوى نصف التكلفة الشهرية للدعم وفق المنظومة الحالية، ولذلك من المستبعد تماماً أن يمنحه البنك الدولي للبنان “على بياض” من دون تغيير جذري في هذه المنظومة

في المقابل، يحقّق رفع الدعم تدريجياً وفراً بمقدار 1.8 مليار دولار في السنة الأولى، ثم 2.4 مليار دولار في الثانية، وصولاً إلى أكثر من ثلاثة مليارات دولار في السنة الخامسة.

المنطق الأساسي في هذه المنظومة أنّ الدعم ينتقل من نطاق مسؤولية مصرف لبنان إلى نطاق مسؤولية الحكومة، التي ستصبح هي المسؤولة عن توفير فاتورة هذه الإعانات.

وإذا كان قرض البنك الدولي يوفر 16% من تكلفة الإعانات في السنة الأولى فقط، فإنّ وزارة المالية عليها أن تجتهد في توفير ما تبقى، سواء من صندوق النقد أم من أسواق الدين المحلية والدولية. وتلك مسؤولية استقالت منها الحكومات المتعاقبة في العهد الحالي منذ أن أخرج لبنان من أسواق الدين قبل ثلاث سنوات، ولجأت إلى مصرف لبنان لتوفير الاحتياجيات التمويلية من أموال المودعين.

 

تقاذف الجمر

تغييرٌ كهذا الذي يقترحه البنك الدولي في منظومة الدعم يحتاج إلى قرار سياسي لا يبدو أن في أيٍ من مستويات الحكم من هو مستعدّ للقبض على جمره، من رئاسة الجمهورية إلى الحكومة ومجلس النواب ومصرف لبنان.

المنطق الأساسي في هذه المنظومة أنّ الدعم ينتقل من نطاق مسؤولية مصرف لبنان إلى نطاق مسؤولية الحكومة، التي ستصبح هي المسؤولة عن توفير فاتورة هذه الإعانات

يخرج رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب ليقول مجدداً إنّه ضدّ رفع الدعم، فيما يسكب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مياهاً باردة على الملفّ برمته، من خلال إعلانه المفاجئ أنّ لديه ملياري دولار يستطيع استخدامها ليستمرّ الدعم لبضعة أشهر أخرى، من دون أن يوضح المصدر، بعد أن كان يقول إنّ السيولة المتاحة لدى مصرف لبنان، باستثناء الاحتياطي الإلزامي، لا تكفي سوى لنهاية عام 2020.

ويبرز بعد ذلك تحوّل في النبرة من كلامٍ عن إصلاح جذري للنموذج القائم إلى تقليص محدود لفاتورة الدعم، لتصبح بحدود 400 مليون دولار شهريا! ثم تبرّعت أقلامٌ وأصواتٌ مقرّبة من الحاكم بفكّ اللغز، من خلال الإشارة إلى مورِدَيْن جديدَيْن للدولارات يكشفان عن حجم العبث المتحكّم بما يُقال للناس. قيل إنّ أحد المورِدَيْن هو استرداد البنوك ودائع بقيمة 780 مليون دولار من الخارج، بمقتضى التعميم رقم 154 الذي طلب بموجبه مصرف لبنان “حض” العملاء على إعادة 15% من تحويلاتهم إلى الخارج التي تفوق 500 ألف دولار، و30% من تحويلات الشخصيات ذات الحيثية السياسية (PEPs). وهو كلامٌ محض هراء، لأنّ عودة هذه الأموال التي لا تشكل أكثر من 0.6% من الودائع الدولارية، لا يعني تحوّلها إلى احتياطات لدى مصرف لبنان، ولا تعني إمكانية صرفها على الدعم!

 

دولارات الفقراء واللاجئين

أما المورِد الآخر فهو استحواذ مصرف لبنان على الدولارات الآتية من قرض البنك الدولي بقيمة 246 مليون دولار، على أن يطبع مقابلها ليرات لبنانية، ويتم تسليمها للأسر المحتاجة وفق سعر 6240 ليرة للدولار. بل يجري الحديث عن السعي للاستحواذ على الدولارات المقدمة من المنظمات والوكالات الدولية للاجئين السوريين والفلسطينيين، مقابل ليرات يقدمها مصرف لبنان بسعر يقلّ عن سعر السوق بطبيعة الحال.

إقرأ أيضاً: ما لا تجرؤ عليه السلطة: وقف “السطو” المنظّم باسم الدعم

العطب في تفكيرٍ كهذا لا يتوقف عند البعد الأخلاقي في تنفيذ خصم على أموال مخصّصة للإغاثة، بل يتعدّى ذلك إلى العجز عن الإحاطة بحجم المشكلة، والإصرار على مقاربات شراء الوقت على منهج الهندسات المالية الباهظة التكلفة، والتي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه.

الخوف الآن أن يستمرّ تقاذف كرة النار على نحو ما هو جارٍ منذ الصيف، من دون القدرة على اتخاذ القرار، فيضيع قرض شبكة الحماية الدولية، كما ضاع من قبله قرض سدّ بسري. وحتّى ذلك الحين يستمرّ الاستنزاف حتّى آخر دولارٍ يكتشفه مصرف لبنان في خزائنه من أموال المودعين.

 

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…