لا يشكّل السخط المستمر والمتصاعد على الطبقة السياسية، أو على ما صار يُسمَّى الدولة أو النظام السياسي، حلاً أو سعياً للحلّ من أي نوع. السبب الرئيسي للسخط اليوم حالة العجز أمام انتشار الوباء، والقصور المتزايد في مواجهته. لكن قبل تفاقُم الوباء كان هناك السخط الذي يبلغ حدَّ الجنون من الانهيار الاقتصادي، وتردّي نظام المعيشة، واحتجاز البنوك أموالَ المودعين، والارتفاع الذي لا يتوقف لسعر الدولار تجاه الليرة، والذي يكاد يبلغ هذه الأيام نسبة ستة أضعاف (من 1500 إلى تسعة آلاف ليرة للدولار الواحد). وقبل ذلك وبعده الفساد المُريع والمستمر من سنواتٍ وسنوات، والذي بلغ ذروته في عهد الرئيس عون.
الكلّ يشكون من الفساد، لكنَّ الإجراءات القليلة التي اتّخذت قضائياً أو سياسياً، تبدو بسبب انتقائيتها وضآلتها، وكأنما هي انتقام متبادل بين الأطراف ذاتها. ولا أدلَّ على ذلك من كارثة المرفأ، التي انفجرت وفجّرت بيروت قبل ستة أشهر. وقد أُوقف بضعة أفراد، واستُدعي آخرون، وأفظع التُهم الموجّهة إلى الجميع أمران: الإهمال، وعدم مُراعاة مهامّ ومسؤوليات الموظف العام من جانب كل الأطراف التي لها علاقة بالمرفأ أو مسؤوليات فيه. أما مَنْ جلب نترات الأمونيوم إلى المرفأ عام 2013، ومن خزّنها طوال هذه الحقبة في العنبر رقم 12، ثم من فجرها أو فجّر ما تبقى منها في 4 آب عام 2020، فكلُّ ذلك ما يزال غامضاً. اتهم كثيرون حزب الله بالاستقدام والتخزين والإخراج. ثم قبل أيام بدأ الحديث عن أنّ النظام السوري هو الذي استوردها، ورجالاته هم الذين أخرجوا ثلثيها. لكن ما هي سلطة النظام السوري على المرفأ، وكيف أخرج ثلثيها، ثم من ارتأى تفجير الثلث الباقي، ولماذا؟
المعارضون الحقيقيون من السياسيين والمثقفين وسائر المهتمين بالشأن العام والذين يحسبون أنفسهم على الثورة، هؤلاء جميعاً انقسموا إلى فريقين: فريق يرى المخرج في الانتخابات المبكرة، وفريق أصغر عدداً يرى المخرج في استقالة أو إقالة رئيس الجمهورية
لماذا هذا التطويل في الحديث عن جريمة المرفأ الهائلة؟ فقط لضرب المَثَل، وإلاّ فإنّ الفَشَل الفظيع والمتراكم يمكن أن يجد له المرء عشرات الأمثلة الأُخرى التي تدلُّ على أنّ هذا العهد هو بالفعل اسوأ العهود التي مرّت على هذه البلاد، ومن النفايات إلى الكهرباء، وإلى السدود، وإلى الهروب من السياسة المالية الصلبة إلى “الهيكلة” الاحتيالية، وإلى التدمير المتعمد للسياسة الخارجية للبلاد، والسماح بل والتهليل لاستباحة سلاح الحزب للبنان وانطلاقاً منه لسورية والعراق واليمن.. إلخ… فإلى إضعاف القضاء وتعطيله، وإفساد الوظيفة العامة وإدارة الدولة في سائر المرافق.
وهكذا فالمسؤولية شاملة وإن تفاوتت درجاتها. ولها جانبان: جانب المشاركة بحماسة من جانب معظم أطراف صفقة العام 2016، وجانب السلْب، أي السكوت خوفاً أو طمعاً أو سوء تقدير، أو الأمور الثلاثة معاً.
ما هو المخرج من هذا الواقع الذي صار أسطورياً لتعاظم أهواله؟
ثوّار 17 تشرين 2019 قالوا “كلن يعني كلن”. وهم تحدثوا بالطبع عن “الطبقة السياسية”. لكنّها في الواقع ليست طبقةً لا بالمفهوم الماركسي، ولا بالمفهوم الرأسمالي. ذلك أنّ الثورة، والتهدُّد بالمحاسبة والمحاكمة وحتى التدمير، إن لم يكن من جانب اللبنانيين فمن جانب المجتمع الدولي، كلُّ ذلك لم يدفعهم إلى التضامن والتآمر على الشعب كما يقال، ولا لإجراء مراجعة وعرض حل أو حلول يستعيدون بها بعض الثقة. كلُّ ما في الأمر أن كلاً منهم تمسك بموقعه، وراح يحاول إزاحة المسؤولية عن ظهره. ما سكت أحدٌ أو خجل. فحتى جبران باسيل في كلامه الأخير قال إنّ قرشاً واحداً لم يجر هدره في الكهرباء. والوزيرعلي حسن خليل عندما عُيِّر ببعض الأمور، ردَّ بذكر حقائب الفلوس التي كانت تمشي باتجاه القصر. ولهذا هو صحيحٌ وصْف هؤلاء المتعاطين للشأن العام بأنهم مافيا. إنما لا أمل في المراقبة فضلاً عن المحاسبة.
مرةً أُخرى: ما هو المخرج من هذا الوضع؟
المعارضون الحقيقيون من السياسيين والمثقفين وسائر المهتمين بالشأن العام والذين يحسبون أنفسهم على الثورة، هؤلاء جميعاً انقسموا إلى فريقين: فريق يرى المخرج في الانتخابات المبكرة، وفريق أصغر عدداً يرى المخرج في استقالة أو إقالة رئيس الجمهورية. ولا بد أن نذكر هنا فريقاً ثالثاً، إذا صحَّ التعبير، ليس من المعارضين ولا يريد أن يُحسب عليهم، وهؤلاء منهم من يريد تعديل الدستور أو تغييره، ومنهم مَنْ يئس من النظام اللبناني ويدعو للفيدرالية. ولا داعي للدخول في مناقشة هذه الدعوات ليس لأنني ضدَّها وحسْب، بل ولأنها تتطلب توافقاً وطنياً كبيراً لا يمكن الوصول إليه في هذه الظروف. وهذا فضلاً على أنّ الأزمة ليست دستورية، ولا طائفية، بل المشكلة هي في سوء إدارة الشأن العام، لا أكثر ولا أقلّ. والمسؤولون عن سوء الإدارة والفساد معروفون.
أسهل الحلول والمخارج تكون بإرغام الرئيس على الموافقة لقيام حكومة صالحة وقادرة. ويتبين من كلام باسيل وعون عن الرئيس المكلّف أنّ الأمر عسير جداً. ولذلك قلت إنّه ينبغي إرغامه. وهذا أمرٌ ممكنٌ من جانب جبهة المعارضة التي تتعاظم وتدعو للحلين السابقين. فالضغط بمطلبٍ واحد هو قيام حكومة يمثل طموح الجميع ولا انقسام عليه
فلنعدْ إلى فريقي المعارضة، ولنبدأْ بدُعاة الانتخابات المبكّرة، لأنهم الأكثر عدداً وعُدّة. الدعوة لانتخابات مبكرة تتطلب في حالة الإصرار على السلم وقواعد النظام أن تدعو إليها الحكومة، ويوافق عليها مجلس النواب. والحكومة غير موجودة، ومجلس النواب بأكثريته الحالية لن يوافق عليها حتّى لو نادته الحكومة لذلك. ينبغي إذن أن تُرغم عليها الثورة بالتظاهر المستمر والغلاّب بحيث لا يستطيع المجلس أن يجتمع لا في ساحة النجمة ولا في اليونيسكو. وقد تضاءلت فعاليات الثورة، وهي في عزّها ما استطاعت غير إقناع سعد الحريري بالاستقالة. وإلى ذلك ليس هناك اتفاقٌ على قانون الانتخابات الحالي. فالثنائي الشيعي أو الرئيس بري على الأقل يريد تغييره، وكذلك سعد الحريري الذي وافق عليه من قبل ما عاد كذلك، كما صرَّح مراراً. لكن لو تحقّقت كل المتطلبات: كيف ستحصل على الأكثرية المعارضة التي من الصعب جداً أن “تتحالف” أطرافها. حتّى تتشكل حكومةٌ منتخبةٌ من هذه الأكثرية، توقف الانهيار، وتحقّق الإصلاحات وتستعيد المؤسسات التي صدَّعها هذا العهد الميمون؟ إذا تحققت كل الشروط فلن يحدث ذلك في أقلّ من عام، فهل يبقى هناك “شيء” من هذه الدولة بعد عامٍ من الصراعات على إجراء الانتخابات؟
في عزّ الثورة كنتُ آمُلُ أن تدفع ثلث أعضاء المجلس القائم على الاستقالة، لكنّ ذوي الحساسية والاستنارة ما زادوا على الثمانية من 128. وهكذا فإنّ الانتخابات المبكّرة هي في أقلّ الأوصاف اللائقة بها: طبخة بحص، ما دمنا قد تجاوزْنا من زمان” اللحظة العراقية” حيث أرغم الثائرون بسائر أنحاء العراق المافيا الحاكمة هناك أن توافق على إجراء انتخابات مبكرة، وقد عادت المافيا العراقية الآن للتشكيك في موعدها أو مواعيدها.
فلنذهب إلى مطلب الفريق الآخر من المعارضين: استقالة رئيس الجمهورية. وأنا أقول الاستقالة وليس الإقالة، لأنّ الإقالة تتطلب موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب. ومن أين سنأتي بذلك؟ أنا لا أشكّ في أنّ الرئيس يستحقّ الإقالة، ولعشرين سبب وسبب، ليس أقلّها أهوال مخالفاته للدستور والتي ما تزال تحصل كل يومٍ تقريباً.
الدعوة لانتخابات مبكرة تتطلب في حالة الإصرار على السلم وقواعد النظام أن تدعو إليها الحكومة، ويوافق عليها مجلس النواب. والحكومة غير موجودة، ومجلس النواب بأكثريته الحالية لن يوافق عليها حتّى لو نادته الحكومة لذلك
فلنعُدْ إلى الاستقالة. فمنذ عامٍ ونيف يطالب الدكتور فارس سعيد رئيس الجمهورية بالاستقالة بسبب كل المصائب التي تسبب بها مباشرةً أو بالتبع. ولو لم يكن منها غير إطلاق يد الحزب وجبران باسيل وجريصاتي في كل شيء. وقد ازدادت أعداد الأفراد والجهات المطالبة بذلك، وبين المسيحيين، وإنما أكثر بين المسلمين. لكنّ الجهات الكبرى والفاعلة عند المسيحيين بالذات، وهي معدودة، ما وصلت إلى حدٍ ضاغطٍ بالفعل على الرجل. ثم هل نسيتم من هو الجنرال؟ لقد شنَّ حربين بل حروباً ليمنع إنهاء الحرب الأهلية قبل ترئيسه، وتسبّب في خُلُوّ منصب الرئاسة لحوالى الثلاث سنوات، وتعطيل الحكومات لحوالي الأربع سنوات، لكي يصل للرئاسة. ولا يظنّنّ أحدٌ أن البطريركية المارونية يمكن لها تحريكه بهذا الاتجاه بسهولة. فعندما اختلف مع البطريرك الراحل صفير، ذهب إلى قرية معاد بشمال سورية، مسقط رأس مار مارون، لينشئ كنيسةً مارونيةً جديدةً، من أجل الرئاسة. وقبل هذا كلّه وبعده ليس الضغوط بهذا الاتجاه هو مزاج البطريرك الراعي. وسأجرّب المستحيل وأقول: قد يفعلها الجنرال ويستقيل: كيف سننتخب رئيساً جديداً؟ وفي أي مدةٍ وأمد؟ ولماذا ينتخب مجلس النواب المسيطَر عليه رئيساً أفضل أو أكثر استقلالاً ونزاهة وحرصاً على الدستور؟
إنّ الذي أراه أنّ أسهل الحلول والمخارج تكون بإرغام الرئيس على الموافقة لقيام حكومة صالحة وقادرة. ويتبين من كلام باسيل وعون عن الرئيس المكلّف أنّ الأمر عسير جداً. ولذلك قلت إنّه ينبغي إرغامه. وهذا أمرٌ ممكنٌ من جانب جبهة المعارضة التي تتعاظم وتدعو للحلين السابقين. فالضغط بمطلبٍ واحد هو قيام حكومة يمثل طموح الجميع ولا انقسام عليه. وعندما يطلب الجميع من الرئيس ومنهم كل الكبار السياسيين والدينيين ووراءهم كل الناس، وربما يضغط أيضاً الدوليون الذين يشترطون ذلك لمساعدة لبنان، فلا أحسب أنّ الرئيس الذي يتعرض في هذه الحالة لانجرافات باتجاه الإقالة أو الإزالة بحكم تعطيله لمصالح العباد والبلاد وتعمده الإصرار على الانهيار، لا أحسبه إلاّ موافقاً مُرغماً على إصدار مراسيم الحكومة الجديدة أو يسقط عهده فعلاً وليس شكلاً.
يا جماعة، أيها المسيحيون: إذا كان الرئيس لا يملك صلاحيات بحسب الدستور، كما يزعم، وهو يستطيع “إنجاز” كل هذا الدمار مع الطفل المعجزة، فهذا أمرٌ عجب!
بدلاً من الحلول والمخارج الصعبة والطويلة الأمد، والتي لم تعد البلاد قادرةً على الصبر عليها، هناك إذن الحلُّ الأسهل: الضغط الديني والسياسي والشعبي من أجل قيام حكومة، وليس أي حكومة. حكومة تلتزم مبادئ المباردة الفرنسية، وحظي رئيسها بتكليف مجلس النواب في الاستشارات الملزمة.
ولستُ على وهمٍ بأنّ حكومة سعد الحريري الرابعة أو الخامسة ستكون لديها قدرات عجائبية. لكنّ البلاد في قاع الانهيار، وبدلاً من استمرار الحصار بين الحكومة المستقيلة ومجلس الدفاع الأعلى، من الضروري من أجل الحياة والعيش الوطنيين أن تكون لدينا حكومةٌ مسؤولةٌ. فالحكومة هي السلطة التنفيذية كما في سائر دول العالم. وهي السلطة الدستورية الوحيدة في لبنان التي تتّسم بالمرونة، ويمكن مراقبتها ومحاسبتها ومعارضتها وإقالتها بخلاف السلطتين الأُخريين.
إقرأ أيضاً: عذراً فخامة الرئيس استقالتك هي الحلّ
لهذه الأسباب كلّها: لا بد من حكومةٍ يُرغم الجنرال على إصدار مراسيمها أو ينتهي اللبنانيون ولا يبقى غير المعصوم، والمهضوم والمظلوم… ولا حول ولا قوة إلا بالله.