على امتداد التاريخ اللبناني لم يكن من خلاص للّبنانيين إلا بالحوار الذي رفضته راهناً قوى سياسية تعتقد أنّ تسوية خارجية قد تُخرج البلد من أزماته السياسية والاجتماعية بدءاً من الشغور الرئاسي والنزاع على صلاحيّات حكومة تصريف الأعمال، وصولاً إلى بلوغ أدنى مستويات الانحدار على المستويين المالي والاقتصادي. يحسم ماضي لبنان القريب والبعيد أنّ الاعتكاف عن الحوار كان يُفضي إلى مِحَنٍ ذاق اللبنانيون جميعهم أهوالها.
أيّامٌ قليلة ويودّع اللبنانيون عام 2022 وقد تردّت الأوضاع المعيشية والمالية والاقتصادية والاجتماعية والخدماتية إلى أسوأ مستوى في تاريخ الكيان. حتى خلال الحرب الأهلية (1975-1990) لم تصل الأوضاع إلى ما وصلت إليه اليوم. لكنّ الظاهرة الأخطر التي راحت تطبع المرحلة السياسية الراهنة هي رفض بعض الأطراف الجلوس إلى طاولة الحوار للبحث في حلولٍ لهذه الأزمات والعمل لانتخاب رئيس جديد، وهو ما يدفع نحو تفاقم الأزمات في وسط وضع صعب قد لا يمكن السيطرة عليه.
لبنان ليس من أولويّات الخارج
في مقابل محاولات بعض الأطراف فتح كوّة في جدار الأزمة السياسية، كان يسود هدوء كبير على جبهة الحراك الدبلوماسي نحو الداخل. ولولا “حادثة العاقبيّة” مع قوات الطوارىء الدولية (اليونيفيل) التي دفعت بعض الجهات الخارجية إلى الاهتمام بالوضع اللبناني لَما شهدنا أيّة مواقف، ذلك أنّ معظم الدبلوماسيين الغربيين في إجازة الأعياد. وحتى في الأسابيع السابقة لم تظهر وقائع فعليّة تؤكّد وجود اهتمام دولي بلبنان وأزماته.
الظاهرة الأخطر التي برزت في لبنان في المرحلة الأخيرة هي رفض بعض الأطراف اللبنانية الجلوس إلى طاولة الحوار للبحث في حلول للأزمات
على الرغم من بعض اللقاءات التي عُقدت في العاصمة القطرية على هامش المونديال، وبعض الاتصالات الفرنسية، لم تظهر أيّة نتائج عملية حتى هذه اللحظة. وما يؤكّد هذا السياق هو إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عدم وجود أيّة استعدادات فرنسية لعقد مؤتمر دولي من أجل لبنان في القريب العاجل، مُعتبراً أنّ الخيار الأفضل تغيير الطبقة السياسية اللبنانية مع معرفته أنّ هذا المطلب لا يمكن أن يتحقّق في القريب العاجل.
باسيل يتحرّك والحزب يدعو للحوار
على الصعيد الداخلي، وبعد رفض القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر وحزب الكتائب التجاوب مع دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى الحوار، برز تحرّك رئيس تكتّل “لبنان القوي” النائب جبران باسيل للبحث عن خيار لرئاسة الجمهورية بديل من كلّ من رئيس تيار المردة سليمان فرنجية وقائد الجيش العماد جوزف عون، لكنّ تحرّك باسيل لم يحقّق أيّ خرق حتى الساعة وإن كان وعد باستكمال التحرّك في بدايات العام الجديد.
من جهتهم، أكّد معظم مسؤولي حزب الله أن لا خيار للوصول إلى حلول إلا من خلال الحوار والتوافق. واعترف هؤلاء المسؤولون أن لا قدرة لأيّ فريق سياسي لبناني على حسم المشكلة اليوم أو إيصال مرشّحه للرئاسة، وهو “ما يستلزم الحوار والتوافق”، حتى إنّ الحزب لم يعلن تبنّيه العلنيّ لترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية بهدف فتح الباب أمام الحوار والتسويات. وأكّد المسؤولون أنّ الحزب منفتح على كلّ الخيارات والحلول، وأنّ كلّ الموضوعات والملفّات قابلة للنقاش، ومنها شكل الحكومة المقبلة وكيفية مقاربة القضايا الأساسية المتعلّقة بالأزمات المعيشية والمالية والاقتصادية.
الحائط المسدود
في المقلب الآخر، تستمرّ القوات اللبنانية، الحزب التقدّمي الاشتراكي، حزب الكتائب، و”النواب المعارضون” في تبنّي ترشيح النائب ميشال معوّض، لكنّهم لم يتوافقوا على خطّة “ب”، ولا توجد لديهم آليّة واضحة للوصول إلى أهدافهم، وهذا الوضع يضعهم أمام حائط مسدود حتى الآن.
إقرأ أيضاً: إسلاميّو لبنان والمراجعة المطلوبة: من يبدأ أوّلاً؟
بانتظار بروز معطيات جديدة عن الحراك الخارجي أو تفاصيل مشروعٍ من أجل الوصول إلى تسوية للأزمة الداخلية، يبقى الحوار الداخلي هو الحلّ الأقصر والأقرب إلى الواقعية.
ليس من مبرّر حقيقي أو جدّي لرفض الحوار لأنّ انتظار التسوية من الخارج سيُبقي الأمور على ما هي عليه مع تمسّك كلّ طرف بخياراته من دون أن يستطيع تحقيقها. وفي المقابل سيدفع اللبنانيون ثمن كلّ ذلك مزيداً من الانهيارات المالية والاقتصادية والمعيشية والأمنيّة والاجتماعية. عليه يبرز السؤال التالي: مَن يبادر إلى أخذ خيار “شجاعة القبول” كما دعا إلى ذلك المفكّر الدكتور رضوان السيد في مقاله في موقع “أساس”؟
لمتابعة الكاتب على تويتر: kassirKassem@