في مسلسل المآسي العربيّة التي بدأت بالانفجار الداخلي اللبناني في عام 1975، وهو انفجار تسبّبت به فوضى السلاح غير الشرعي، ليس هناك أسوأ من رفض الاعتراف بالواقع والأخطاء. إنّها أخطاء ارتُكبت في الماضي القريب وجعلت تجربة “حماس” في قطاع غزّة، بكلّ ما تحمله من تخلّف، تعمّ المنطقة.
كان مطلوباً التصدّي عربياً وباكراً لما حدث في لبنان بدءاً بموقف عربي موحّد يمنع توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في مثل هذه الأيام من عام 1969. ما يدعو إلى الحزن أنّ اتفاق القاهرة، الذي رعاه جمال عبد الناصر، شرّع وجود سلاح آخر غير سلاح الشرعيّة اللبنانيّة وأدّى عمليّاً إلى تدمير لبنان وغرق “المقاومة الفلسطينيّة” في وحول حرب ذات طابع طائفي ومذهبي. أنتج ذلك لاحقاً السلاح الإيراني، أي سلاح “حزب الله”، الذي يسيطر حالياً على البلد ويمنع وجود أيّ أمل بأن تقوم له قيامة في يوم من الأيّام.
في سياق هذا المسلسل من المآسي، تحتلّ تجربة صعود “حماس” وإقامتها “إمارة إسلاميّة”، على الطريقة الطالبانيّة، موقعاً متميّزاً. ثمّة من ينسى أنّ “حماس” تتحكّم بمصير مليونَيْ فلسطيني في قطاع غزّة منذ ما يزيد على خمسة عشر عاماً بعدما حوّلت القطاع بمساحته الضيّقة إلى سجن في الهواء الطلق. وُجد للأسف من يدعم هذه التجربة التي تعبّر أفضل تعبير عن رغبة في نشر البؤس والتخلّف وتحويل جيل جديد من الفلسطينيين إلى جيل جاهل، علماً أنّ نسبة حاملي الشهادات الجامعيّة المحترمة، بين الفلسطينيين، كانت في الماضي نسبة عالية جداً، إن لم تكن الأعلى عربياً.
أيّ مستقبل للضفّة الغربيّة ولأهلها في حال سيطرت عليها “حماس” التي تعمل حالياً على إعادة تأهيل نفسها مستفيدة قبل كلّ شيء من ترهّل السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة ومن شخصيّة محمود عباس
كان التصدّي العربي لـ”حماس” وطموحاتها، منذ البداية، كفيلاً بالحؤول دون انتشار هذه التجربة القائمة على إقامة “إمارة إسلاميّة” يعيش أهلها في حال من البؤس في ظلّ شعارات طنّانة. صبّت هذه الشعارات في نهاية المطاف في خدمة المشروع الإسرائيلي الذي يستهدف ضمّ جزء من الضفّة الغربيّة، وإن لم يكن معظمها، عن طريق سياسة الإستيطان. هناك مكان انتقلت إليه تجربة “حماس” بسهولة. هذا المكان هو اليمن. أقام الحوثيون في اليمن الشمالي منذ 21 أيلول 2014 كياناً خاصاً بهم يشبه الكيان الذي أقامته “حماس” في غزّة. ما لبث “حزب الله” مع نجاحه في احتلال بيروت في أيّار 2008 أن كرّس وجود دويلة أقوى من الدولة في لبنان، بل دويلة تتحكّم بالدولة اللبنانية.
لم يوجد في منتصف عام 2007 من يتصدّى لـ”حماس” وللانقلاب الذي نفّذته في غزّة… بفضل فوضى السلاح. كان الرئيس المصري السابق حسني مبارك والمحيطون به عاجزين عن استيعاب خطورة الانقلاب الحمساويّ، وذلك على الرغم من تأثيره على الداخل المصري وعلى الرغم من امتلاك الأجهزة الأمنيّة المصرية المعلومات الأكثر دقّة عن الوضع الداخلي في القطاع وعن خطورة النشاط الذي يبذله الإخوان المسلمون، بما في ذلك تهريب السلاح الإيراني إلى “حماس”… عبر الأراضي المصريّة.
كان كلّ همّ مبارك محصوراً وقتذاك بتوريث ابنه جمال. وظّف كلّ ما يملكه من أجل تحقيق هذا الغرض. استطاعت “حماس” مع تنظيم الإخوان المسلمين في مصر أن تتحوّل جزءاً من المعادلة المصريّة التي أوصلت الراحل محمد مرسي إلى موقع رئيس الجمهوريّة. التقطت مصر منتصف عام 2013 أنفاسها، بدعم عربي وبفضل وعي مواطنيها أنفسهم. عادت إلى لعب دور في المستوى اللائق بها على الصعيد العربي بدل أن تتحوّل رهينة لدى تركيا وإيران.
خلاصة الأمر أنّ الوضع في غزّة لا يمكن أن يبقى على حاله في وقت بات مطروحاً فيه سؤال يتعلّق بمستقبل السلطة الوطنيّة الفلسطينية في حال غياب رئيسها محمود عبّاس (أبو مازن) الذي تقدّم به العمر. الأهمّ من ذلك كلّه هو إعداد “حماس” نفسها لملء الفراغ الذي سينجم عن انهيار السلطة الوطنيّة الفلسطينية التي عمل “أبو مازن” على تجويفها وتحويل دورها إلى مجرّد دور أمنيّ في خدمة الاحتلال الإسرائيلي. لم يعد من وجود لأيّ شخصيّة فلسطينيّة في الواجهة في حين كان ياسر عرفات، قبل وفاته في مثل هذه الأيّام من عام 2004، قادراً على استيعاب الجميع داخل “فتح” وخارجها.
لا يمكن بأيّ شكل الاستخفاف بما حقّقته “حماس” في خمسة عشر عاماً بدعم تركي، بين حين وآخر، وإيراني في كلّ حين. استفادت إلى أبعد حدود من غياب “أبو عمّار”. الأهمّ من ذلك كلّه أنّها بقيت مسيطرة على غزّة على الرغم من التغيير الإيجابي الذي حصل في مصر وتولّي عبد الفتاح السيسي الرئاسة قبل تسع سنوات.
ما يثيرالقلق الشديد، في ما يخصّ مستقبل الضفّة الغربيّة، أنّ “حماس” لم تتحوّل إلى مدرسة في المحافظة على السلطة في ظلّ شعب بائس فحسب، بل ذهبت أيضاً إلى أبعد من ذلك عندما باشرت تقديم أوراق اعتمادها إلى إسرائيل. لم تكتفِ بأخذ مسافة من “حركة الجهاد الإسلامي” في أثناء المواجهة الأخيرة بينها وبين إسرائيل… بل كان هناك موقف لافت لـ”حماس” في أواخر تشرين الأوّل الماضي عندما دعمت علناً اتفاق ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل، وهو اتفاق يقف خلفه “حزب الله” الذي ليس سوى واجهة لإيران. من الواضح أنّ “حماس” توجّه بذلك رسالة إلى إسرائيل فحواها أنّها مستعدّة بدورها لترسيم الحدود البحريّة مع غزّة بما يسمح للحركة الإسلاميّة باستغلال الغاز الموجود في البحر قبالة القطاع.
إقرأ أيضاً: خيرسون هزيمة لبوتين… ولحلفه مع إيران
ليس سرّا أنّ هذا الغاز موجود وسبق لياسر عرفات أن دشّن في الماضي اكتشافه بواسطة شركة بريتيش بترولويوم (BP). وقد أُقيم احتفال في تلك المناسبة أشعل فيه “أبو عمّار” غازاً استُخرج من إحدى الآبار.
أيّ مستقبل للضفّة الغربيّة ولأهلها في حال سيطرت عليها “حماس” التي تعمل حالياً على إعادة تأهيل نفسها مستفيدة قبل كلّ شيء من ترهّل السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة ومن شخصية محمود عباس الذي لم يطِق وجود شخص ذي معنى في محيطه؟… هل “حماس” مستقبل الفلسطينيين ومستقبل المنطقة؟