الحجاب: ظلالُ الدين… وعنفُ السياسة

مدة القراءة 10 د

“حرق الشيادر واجب”، عبارةٌ كانت أقوى ما استمال عقلي في بداية مراهقتي في عدن، بعد الوحدة القسرية العنيفة بين دولتَيْ جنوب اليمن وشماله في مطلع التسعينيات، وفرض الحجاب والشادورات على الجنوبيّات بالعسف والقوّة لتكميمهنّ وخنقهنّ خلف الأردية السوداء.

“الشيادر” في اللهجة اليمنية ليس الشادور الذي فرضه انتصار الثورة الإسلامية الخمينيّة على الإيرانيّات في بلدهنّ سنة 1979، جاعلاً تحجيبهنّ فريضة وإنجازاً “دينيَّين” ثوريَّين، باعثاً في لفظة الشادور، غير المعروفة في بلدان عربية كثيرة قبل الثورة الخمينية، “روحاً” جديدة. بل إنّ “الشيادر” هو رداء نسائي يمنيّ أسود، تقليدي وشعبي وخفيف، ويكاد يكون شفّافاً ومفتوحاً من أمام، تضعه النسوة على أكتافهنّ فوق ثيابهنّ.

“شرطة الرعب” الخمينية، التي قتلت مهسا أميني وكثرة سواها من النساء الإيرانيات، وقتلت في موجة العنف الأخيرة مئات الرجال والأطفال، ليست سوى أداة عسف سياسي اصطنعها النظام الثيوقراطي منذ نشوئه في إيران

مفارقات: عدن – طهران

أمّا الدعوة إلى حرقه فوصلتني أصداء حكاياتها في مراهقتي من والدتي وقريباتي اللواتي عشن وعاصرن انتصارات الرفاق الثوريين القوميين والماركسيين، وتأسيس دولة اليمن الجنوبي الشعبية، والثورية الاشتراكية، في سبعينيات القرن المنصرم. وهي لم تكن بالتأكيد (الدعوة إلى حرق الشيادر) سوى شعار سياسي. فغالباً ما يثبت الواقع أنّ الشعارات تنطوي على مداهنة وتضمر أهدافاً غير التي تعلنها.

وحينما رفع الرفاق الماركسيون في جنوب اليمن ذاك الشعار إبّان حكمهم، فإنّه كان يضمر مكايدة أرادوا بها أن يدوسوا بعنف وصلف على تقاليد مجتمعهم المحلّي الموروثة، ويبعثوا إلى أهل وسلطات محيطهم الجغرافي الإقليمي الذي يعادي اليسار رسالة تفيد أنّ قلعته “التحرّرية” اليمنية على بعد خطوات. وهذا عدا ما تحمله العبارة عينها من تدخّل في سلوك الناس وحياتهم الشخصية ومن قسر لهم يكرّسان ما درجت عليه الأنظمة الشمولية، يسارية كانت أو يمينية.

في أيّامنا هذه، شاسعٌ هو الفرق بين الدعوة إلى حرق الشيادر في جنوب اليمن في السبعينيات، بالتزامن أو قبل سنوات قليلة من تعميم فرض الشادور في إيران الخمينية، وبين حرق النساء الإيرانيات الثائرات شادوراتهنّ وحجاباتهنّ في شوارع طهران. فارتداء الشيادر لم يكن يفرضه على النساء في اليمن جهاز قمعيّ رسميّ حديث، شأن ارتداء الشادور في إيران الخمينية، بل كان زيّاً تقليدياً، كالمنديل أو “الإشارب” الذي كانت تضعه النسوة المسلمات اللبنانيات على رؤوسهنّ قبل شيوع الحجاب.

في أوروبا جدّدت الثورةُ الإيرانية الراهنة على الحجاب المناقشاتِ والسجالاتِ في مسألة حجاب النساء المسلمات، ومنعهنّ في فرنسا من ارتدائه في الأماكن العامّة: أهو زيٌّ ديني صرف، أم سياسي لتوكيد هويّة دينية – سياسية؟

وها عبارة “الريح في شعري” تطلق حملة تعاطف في صحف عالمية مع الإيرانيات الثائرات. والعبارة عنوان كتاب – شهادة للناشطة الإيرانية في المنفى القسري الأميركي، مسيح علي نجاد، تعارض فيه إلزامية الحجاب في بلدها، معتبرة أنّ الثورة عليه في المجتمع الإيراني كالثورة على جدار برلين.

تتكاثر الأسئلة والسجالات: هل قطعة القماش، أو ما يسمّى “الحجاب الإسلامي” على رؤوس النساء المسلمات، شعيرة تُظهر تديّنهنّ وعفّتهنّ؟ أم هو بات يحمل مدلولاً سياسياً ما فوق ديني، إلى مسائل أبعد من أجسام النساء؟

“الشيادر” هو رداء نسائي يمنيّ أسود، تقليدي وشعبي وخفيف، ويكاد يكون شفّافاً ومفتوحاً من أمام، تضعه النسوة على أكتافهنّ فوق ثيابهنّ

قتل الشابّة الكردية الإيرانية مهسا أميني قبل أكثر من شهرين، على يد من يُسمَّون رجال جهاز “شرطة الأخلاق”، لأنّهم رأوا في حجابها المنحسر قليلاً عن شعرها ما ينافي التعاليم الخمينية المفروضة على الإيرانيات، أدّى إلى احتجاجات مستمرّة تتّسع في إيران، وإلى تضامن واسع في العالم مع المنتفضين/ات فيها، الأمر الذي دفع مجدّداً إلى الواجهة سؤال الحجاب وأبعاده السياسية، غير الدينية.

“شرطة الرعب” الخمينية، التي قتلت مهسا أميني وكثرة سواها من النساء الإيرانيات، وقتلت في موجة العنف الأخيرة مئات الرجال والأطفال، ليست سوى أداة عسف سياسي اصطنعها النظام الثيوقراطي منذ نشوئه في إيران، وفق ولاية الفقيه الملاليّة التي بدأت عهدها بقانون فرض تحجيب النساء. فالنظام الثوري الفتيّ آنذاك أراد توكيد قوّته وتسلّله الشمولي في نسيج المجتمع، فأنشأ جهازاً سمّاه “دوريّات جند الله أو ثأر الله” لمراقبة سلوك النساء ولباسهنّ، ولضربهنّ في الشارع واعتقالهنّ وتعذيبهنّ حين يشتبه رجاله بعدم التزامهنّ الحجاب المفروض.

ربيع الحجاب اليمنيّ

حتّى أصالة الحجاب في التراث الديني، على ما تزعم مؤسّسة ولاية الفقيه، مدار خلافات فقهية على مفهومه وشكله. في الواقع تغيّرت أصالته المُدَّعاة: تحوّل من كونه شعيرة تعبُّد يُفترض أنّها لصيقة بتديّن المرأة المسلمة، إلى أداة تسلّط ذكوري على النساء تنطوي على قوّة ذويها من الذكور وشكيمتهم وقواميّتهم على نسائهم. وأبرز مثال على تكثيف الدعوات الذكورية إلى الحجاب هو تزامنه مع صعود خطاب الحركات والأنظمة الإسلامية.

كان حزب الإصلاح الإسلامي اليمني، وهو مزيج من الإخوان المسلمين والسلفيّين، وأشدّ الأحزاب اليمنية انتهازية وأكثرها تنظيماً مرصوصاً، قد وقف يراقب متوجّساً من نسخة الربيع العربي اليمنية في عام 2011، قبل أن يقفز بانتهازية إلى الساحات بعدما اشتدّ زخم الاحتجاجات. وبعدما فرض سطوته بالقوّة على الشارع، أمّم منابر الساحات ومنصّاتها وقصرها على خطابه وشعاراته، وأدرك بانتهازية الحركات الإسلامية المعهودة أنّ توظيف مشاركة النساء سلاحٌ ماضٍ لكسب ثقة المراقبين الدوليين. لذا فرض الحجاب على المتظاهرات، وحدّد شكل لباسهنّ، وحشد أعداداً هائلة من المنقّبات، ودفع بهنّ، وهنّ يوالين رجالهنّ المنضوين في الحزب أو يأتمرن بأمرهم، أرتالاً سوداء في المسيرات. وهذا للقول إنّ الإسلاميين هم من اجترحوا الثورة، وهم موجّهوها والبديل المفضّل للنظام الموشك على الانهيار.

يومذاك تابع العالم على شاشات التلفزة خياماً كثيفة سوداء تسير في شوارع صنعاء. فالحزب الإسلامي استعمل أجساد النساء جداريّة إعلانية لحضوره وقوّته في الشوارع، فمنع اختلاط الجنسين في الساحات، ووضع للعزل بينهما حواجز حديديّة، وراح يعاقب كلّ امرأة تخالف تعليماته وتتجاوز الحاجز الحديديّ. وانطلت رسالة حضور الإسلاميين القويّ والمنظّم عبر مشاهد النساء المنقّبات بالسواد على المجتمع الدولي، ليس في اليمن فقط، بل في كثرة من بلدان الربيع العربي. وهذا يفسّر حصول الناشطة توكّل كرمان على جائزة نوبل، وهي محجّبة وعضوة قيادية إلى جانب والدها القيادي في حزب الإصلاح الإسلامي.

كانت دعوة اليسار إلى حرق الشيادر أقرب إلى الطرفة والخفّة، لكنّها خلّفت في مجتمع تقليدي تصدّعاتٍ واحتقاناتٍ ظلّت في كمون حتّى حان انفجارها حينما سقط حكم الرفاق بعد حرب 1994 واجتاح الشمالُ الجنوبَ

شعر النساء وشعار اليسار

فيما وظّف الإسلاميون الحجاب سياسياً، وانتهجوا لفرضه خطاباً تعبوياً استدعوا فيه مقولات فقه المقدّس والتحريم والتكفير، شهد الحجاب لدى اليسار وقوى العلمنة السياسية في بعض الدول العربية والإسلامية توظيفاً مغايراً: اتّخذوا نزعه والدعوة إلى التخلّي عنه شعاراً لتأكيد القطيعة مع الدين ومنظومته، وفي جنوب اليمن اتّخذ هذا الأمر طابعاً راديكالياً عنيفاً (“حرق الشيادر”). فالرفاق الماركسيون الجنوبيون في السبعينيات كانت مدينة عدن قبلتهم وقلعة تبشيرهم بالمدّ اليساري الأحمر الذي حلموا بأن يعمّ جزيرة العرب.

لكنّ الشيادر زيّ شعبي يمنيّ لا يخلو من جمال وأنوثة. فقماشه الخفيف الناعم ينسدل ليغطي بعضاً من ملابس النساء، وتسمح شفافيّته بترائي ألوانها من بين عطفاته، ويترك اليدين والقدمين وزينتها والرقبة وخصلاً من الشعر ظاهرة ومتحرّرة. هذا على خلاف النقاب وما أطلق عليه شيوخ الدين “اللباس الشرعي”.

كانت دعوة اليسار إلى حرق الشيادر أقرب إلى الطرفة والخفّة، لكنّها خلّفت في مجتمع تقليدي تصدّعاتٍ واحتقاناتٍ ظلّت في كمون حتّى حان انفجارها حينما سقط حكم الرفاق بعد حرب 1994 واجتاح الشمالُ الجنوبَ وأباحه نظام علي عبدالله صالح مرتعاً للمتطرّفين بدعم حزب الإصلاح الإسلامي الذي عقد حلفاً معه.

كانت أوّل تدابيرهم فرض الحجاب فرضاً عنفيّاً: راحت النساء الحاسرات في عدن يُضربن في الشوارع وعلى الشواطئ، فاُحرقت وجوه بعضهنّ بالسجائر في الأماكن العامّة لبثّ الترهيب وإظهار قوّة النظام الشمالي المنتصر في الحرب يسانده الإسلاميون، ولبثّ رسائل مفادها: الجنوب ودولته انتهيا إلى غير رجعة وانتهت كلّ رموزه وآثاره، ومنها شعر ورؤوس نسائه الحاسرات.

زينبيّات صنعاء

ها هم جماعة أنصار الله أو الحوثيون في صنعاء وشمال اليمن يصطنعون مرجعية لحاكميّتهم على أساس ديني، مستنسخين تجربة راعيهم الإيراني. فباتت مراقبة النساء والتضييق على الحرّيات الخاصة تتصدّر أولويات هذه الجماعة التي أنشأت لذلك جهازاً نسائياً تجسّسياً سُمّي “الزينبيّات”. النساء المنخرطات فيه يحملن الهراوات ويطاردن الفتيات ويتفحصن ملابسهنّ في الشوارع، ويسُقن بعضهنّ إلى السجون. وهو مرادف للصلاحيات التي كان يحملها جهاز “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في المملكة العربية السعودية، قبل أن يحدّ وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من حركته وصلاحياته، ويعطي النساء حريّة التحرّك والظهور، والاختلاط، وصولاً إلى قيادة السيارات.

هذا ما حدث لـ “انتصار الحمادي” (20 سنة). وهي ممثّلة وعارضة أزياء شعبية يمنية. فقد اعتُقلت بسبب ملابسها وعروضها. وقالت مصادر حقوقية إنّها أشرفت على الجنون في السجن، بسبب تعذيب سجّانات “جهاز الرعب” في صنعاء.

أنشأت الجماعة الحوثية جهازاً آخر، سمّته “نادي الخرّيجين”، يضمّ أعضاء هيئة التدريس والطلاب الموالين لها، وهو يمعن في مراقبة الطلاب والتنكيل بهم ومراقبتهم، وأصدر قراراً يمنع إقامة حفلات تخرُّج مشتركة بين الطلاب والطالبات مدّعياً أنّها تشيع التفسّخ والفجور.

في مفارقة عجيبة، يشهد جنوب اليمن الذي تحكمه الشرعية بدعم من التحالف العربي تضييقاً مماثلاً على النساء ينفّذه الإخوان المسلمون والسلفيون المنضوون في الحكومة الشرعية. فـ”المرأة عورة” في مشاريع القوى الإسلامية السياسية على اختلاف مشاربها. وقد ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي في حضرموت بين منكر ومؤيّد لحضور طالبات حفل تخرّج مع زملائهن وأهاليهن بوجوه مكشوفة وملابس عصرية ملوّنة. وفي موقف غير مسبوق طالب رئيس الجامعة الرسمية الحكومية السلطات بإرسال قوة أمنية لمنع الطلاب/ات من إقامة حفلات تخرّج مشتركة واستخدام العنف والاعتقال لمنعهم.

إقرأ أيضاً: خناجر اليمن بدل ربطة العنق

تطول الأدلّة والشواهد التي تؤكّد أنّ الحجاب مسألة سياسية. فعلى أبواب الانتخابات في تركيا، يحاول حزب العدالة والتنمية الحاكم إقناع حزب الشعوب الديمقراطية الكردي بالتعاون انتخابياً لقاء موافقته على تعديلات دستورية تشرّع إلزامية الحجاب في تركيا.

يقودنا هذا إلى مثال حيّ تعكسه المملكة العربية السعودية التي اتّخذ فيها القرار السياسي خطوات حثيثة نحو التغيير والبناء المجتمعي الشامل، ومنح النساء حقوقاً ومساحات أوسع لم تشهدها المملكة قبل عهد الملك سلمان ووليّ عهده الأمير الشابّ، اللذين نقلا القرار السعودي إلى مروحة واسعة من طيف التحديث والمعاصرة. وقد حظيت النساء السعوديّات بنصيب وافر خوّلهنّ دخول أطر جديدة في العمل العامّ والمشاركة المجتمعية كانت مقفلة دونهنّ.

كاتبة وباحثة وناشطة حقوقية من جنوب اليمن حضرموت.

مواضيع ذات صلة

ثلاثة برامج للبنان بعد سقوط حكم “اتّفاق الدّوحة”

أسقطت الحرب الراهنة، من جملة ما أسقطت، حكم “اتّفاق الدوحة” الذي تشكّل بمفاعيل حرب تموز 2006، والموازين التي أرساها في المستوى الداخلي. لم يعد الحزب…

رئيس أميركا الجديد: حليف داود ويشوع.. والمقلاع

“وأعُدّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى وتتركني ضفاف النيل مبتعدا وأبحثُ عن حدود أصابعي فأرى العواصَم كلّها زَبَدَا…”. كان محمود درويش يلجأ إلى الحلم عندما…

انتخابات أميركا: بين السّيّئ.. والأسوأ

واشنطن   أصعب، وأسوأ، وأسخن انتخابات رئاسية في العصر الحديث هي التي سوف تحدّد من هو الرئيس رقم 47 للولايات المتحدة الأميركية. في الوقت ذاته…

قراءة سياسيّة في أزمة النّزوح… التي ستطول

حرب عامي 2023 و2024 لا تشبه حرب عام 2006 في العديد من الأمور، ومنها الحكومة القائمة وقتها، والحماسة العربية والدولية للبنان، والحجم الأقلّ للحرب وخسائرها….