عن السفر.. والخروج من “الغثيان اللبناني”

مدة القراءة 5 د

حين تُمضي أيامًا من دون أن تسمع أو تقرأ كلماتٍ عن ترسيم الحدود، التطبيع، الفراغ الرئاسي، الدستور، اتفاق الطائف، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وعن حزب الله وحسن نصر الله وميشال عون وجبران باسيل وسليمان فرنجية ونبيه بري ونواب التغيير… ألا تنتبه أو تتذكّر أن الحياة ليست غثيانًا واختناقًا أو سجنًا جدرانه من كلمات؟

فنون حرفية وفن العرض

وقد تنسى تمامًا هذه الكلمات – الجدران، حين تمشي وتقف ساعاتٍ محدّقًا في واجهات متاجر صغيرة، شبه حرفية أو محترفات… في باريس. فتلك الواجهات ليست أقل من معارض فنية لأشياء عادية، قد تكون للاستعمال أو للاقتناء أو للزينة، من الضروريات أو الكماليات. لكنها في توضيبها وأشكال عرضها في مواضعها والاعتناء بها خلف زجاج المحال والمتاجر، تبدو أقرب إلى منمنماتٍ حرفية،  للفرجة، للمتعة البصرية، ومنفصلة عن وظائفها وبيعها وشرائها والإتجار بها. كأنها معروضة لغايات جمالية وإظهار إتقانها الحرفي الخاص. وربما هذا ما يحرّر المعروضات من سلعيتها التسويقية، أو يزيح تلك السلعية جانبًا، ليمنح الأشياء حضورًا يقرّبها من أن تكون قطعًا فنية في محترفات أو مشاغل حرفية، قبل أن تكون للتسويق.

هناك متاجر صغيرة هي نفسها مشاغل ومحترفات. أي أن أصحاب المتاجر هم أنفسهم من يصنعون معروضاتهم عن مهنةٍ وعمل وهواية، ويبيعونها في المحترف – المتجر

وأنت الهارب من بلد الكلمات – الجدران التي تطبق على الصدر وتسمم الهواء، لاتحتاج إلى أكثر من خطوات على رصيف، تنسيك أنك لا تيسير في مكانك في الوحل والعفن، وأنك لست كسيح الخطى. أو إلى أن تشاهد الدنيا ساهمًا صامتًا من خلف زجاج نافدة قطار، فتبصر تلك الأبقار ترعى مطمئنة في حقول تمتد منبسطة، خالية حتى الأفق البعيد إلا من منازل منفردة وكأنها مهجورة. وهذه المشاهد الطبيعية تشبه هندستها المنمنمات الحرفية خلف الواجهات الزجاجية.

لكن ماذا تعرض الواجهات؟

هي أولًا من أنواع السلع التي قد تُعرضُ أو لا تُعرض، تباعُ أو لا تباع، في المتاجر الكبرى والمولات. لكن ميزتها الأساسية هي أنها خلف واجهات المتاجر الصغيرة  تبدو مصنوعات في مشاغل محلية. مثل حرفة صناعة أصناف الأجبان الفرنسية والنبيذ والخبز الفرنسي في تلك البيوتات البعيدة في الحقول والمراعي.

وما تعرضه واجهات المتاجر الصغيرة يشمل: الصور واللوحات والكارت بوستال والكتب وألعاب الأطفال، إلى أشياء الإضاءة، والمصنوعات الحرفية الخشبية، إلى أصناف الخبز في المخابز، والأجبان والنبيذ، وسلع زينة معدنية متنوّعة ومنحوتات صغيرة، إلى أصناف أغذية طبيعية خالية من السكر والدهون والمركّبات الكيميائية، إلى أنواع من اللحوم المجفّفة أو المقددة، إلى أصناف أقمشة ومطرّزات يدوية… الخ.

وقد يكون هذا ما يستوقف البصر ويوقظ حسًّا فنيًّا لدى المشاهد الذي تجذبه الحرفة الجمالية في الأشياء، قبل انجذابه إلى شرائها واقتنائها.

وقد تكون هذه السلع مجلوبة إلى المحال أو المتاجر من مشاغل بعيدة. لكن فرادتها وعدم كثرتها وأشكال عرضها، تترك انطباعًا ينطوي على أن أصحاب المتاجر على صلة ما شخصية وحرفية بالسلع التي يختارونها ويعرضونها، إلى جانب صلتهم التجارية بها. والصلات هذه قد تنطوي أيضًا على شيء من الهواية والخصوصية الحميمة.

وهناك متاجر صغيرة هي نفسها مشاغل ومحترفات. أي أن أصحاب المتاجر هم أنفسهم من يصنعون معروضاتهم عن مهنةٍ وعمل وهواية، ويبيعونها في المحترف – المتجر.

ثورات الشباب والطلاب في أواخر الستينات والسبعينات، كانت تنطوي في وجه من وجوهها على أعراض من ذاك الحنين والتوق إلى التحرّر من الاستلاب السلعي المتدفّق بغزارة تمحق الفن والجماليات في نمط الانتاج والعيش والتعبير والقول والكلمات

نقد التسليع والاستلاب

منذ ستينات القرن العشرين سال حبرٌ كثير في الكتابة عن التسليع الرأسمالي والاستلاب السلعي للرأسمالية في أوروبا والغرب. لم تكن تلك المقولات في غير محلها، بل كانت من صلب انتقال العالم الغربي من نمط حياة وإنتاج إلى آخر جديد، هو نمط الوفرة والاستهلاك الفائضين وإغراق العالم بسلاسل السلع الصناعية الجاهزة والمكرّرة. ولربما كان النقد والتحليل لذاك النمط ينطويان على حنين إلى زمن ما قبل الطفرة الرأسمالية السلعية والاستهلاكية والتحرر من استلابها الساحق.

والأرجح أن ثورات الشباب والطلاب في أواخر الستينات والسبعينات، كانت تنطوي في وجه من وجوهها على أعراض من ذاك الحنين والتوق إلى التحرّر من الاستلاب السلعي المتدفّق بغزارة تمحق الفن والجماليات في نمط الانتاج والعيش والتعبير والقول والكلمات. تمامًا كما تبعث على الغثيان والاختناق الكلمات المتداولة اليوم في شؤون الحياة السياسية اللبنانية.

لكن ما سال من حبر كثير في نقده وتحليله، وما ثار عليه شبان الستينات وطلابها، صار اليوم من منسيات الحياة اليومية وعادياتها، ولم يعد يثير السخط أو الاهتمام. فالسوبر ماركات والمولات لم تختفِ، بل لا تزال حاضرة، من دون أن تستطيع محق المتاجر الصغيرة وفنونها الحرفية وأشكال عرض منتجاتها الخاصة. وهذه تزايدت بكثرة وتنوّعت وصارت من طبيعة نمط العيش والاستهلاك. وهذا ما يجعل المشي في شوارع باريس، والوقوف أمام واجهات متاجرها الصغيرة، ينطويان على متعة فنية وجمالية، أكثر من انطوائهما على الرغبة المستلبة في الاستهلاك.

إقرأ أيضاً: متعة المشي في شوارع باريس.. والترجمة بمعهد العالم العربيّ

وهكذا يصير المشي والوقوف أمام واجهات مثل هذه المتاجر نزهةً مثيرةً للحواس، كأنك في معرض في الهواء الطلق تتنقّل وتنقّل حواسك بحرية بين معروضاته، حيث لا كلمات – جدرانٍ ولا ترسيم حدود. لا طائف ولا طوائف وزعماء طوائف.

مواضيع ذات صلة

سجون داعش… متحف افتراضيّ لحكايا الجرائم

قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي…

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…