متعة المشي في شوارع باريس.. والترجمة بمعهد العالم العربيّ

مدة القراءة 6 د

بعيداً من فوضى الصراخ والنعيب في بيروت، ممتع هو المشي في شوارع باريس، طليقاً في هواء برد معتدلٍ، متحرّراً من الوقت، من حدود الأنا أو الذات، ناسياً من أنت ومن تكون. مشيٌ بلا هدف، وسط تدفّق بشر مجهولين من مشارق الأرض ومغاربها، في نهارات شوارع باريس ولياليها، في نور شمس تشرينيّة، طيفيّة أو قمرية، على أجسام العابرين ووجوههم العابرة، على حجارة المباني والصروح الرمادية القديمة، على بلاطات الأرصفة والإسفلت النظيف، تعبر عليها أقدام بشر في خفّة الطيور.

مشيٌ للمشي في مزيج من السياحة والاستجمام والوصول إلى عمل أو موعدٍ، في مقهى أو على رصيف محطة مترو. للوقوف في صفّ طويل بين الداخلين إلى متحف أو قاعة محاضرات أو مكتبة، والخروج منها إلى رصيف، والمشي مجدّداً بحثاً عن شارع أو متجر، والوقوف فجأة أمام واجهة.

 

الحياة في الأماكن العامّة

يسيل الوقتُ في شوارع باريس، ممتلئاً، حرّاً، خفيفاً، مُجهِداً، وطليقاً، فيما المشاهدُ والوجوه والإشارات وصروح العمران والحشود تسيل وتتخاطف الحواسّ وتخاطبها مخاطباتٍ سريعة في كلّ مكان. وفجأة تنجذب إلى شارع يخلو إلّا من مشاةٍ قليلين، أو لا مشاة فيه، فتسمعُ خطواتك منفردة مؤنسة على رصيف مبقّعٍ بنور شمس باردٍ ودافئٍ، وتشعر ببرودته ودفئه في الظهيرة. وإلى سمعكَ تصلُ أصداء كلمات خافتةٍ مجهولة المصدر.

الحياة في باريس يحدث معظمها في الشوارع، وسط الحشود، في المقاهي والمطاعم وقاعات العروض والمتاحف. حياة عامّة تسيل بإيقاعات وأهواء وانشغالات كثيرة متباينة ولا تُحصى

حشود بشريّة ولا ضجيج. لا صوتَ عنيفاً نابياً ولا حركة مفاجئة تهدّد انسجام المشاهد والعابرين. حرّية نظامية كأنّما من ألف عام من الاحتفاء بالحرّية والانتظام والفرديّة الإرادية والطبيعية. فجأة يستوقفك ممرّ ضيّق بين صفَّيْ مبانٍ قديمة، لا أثر فيها لإهمال القِدم المصون برشاقةٍ بلا إضافات إلا متقشّفةٍ ضئيلة، لإقامة داخلية بسيطة، ساكنةٍ ومريحة. إقامة حديثة أو معاصرة في جوف عمارة أثرية، بلا ادّعاءات ولا استعراضٍ ولا تشاوف. حشود بشرية من المجهولين الملوّنين، بلا روابط تتجاذبهم في حركتهم وتنقّلهم، سوى رابطة الحرّية والفردية والانسياب في الأماكن العامّة.

سكّان باريس لا يجمعهم سوى ذاك الرباط الخفيّ المزمن حين يخرجون من بيوتهم الضيّقة والوظائفية في معظمها. بيوتٌ تقتصر حياتهم فيها على الوحدة أو التوحّد أو العزلة أو انشغالات شخصية، في داخلٍ عميق من السكون والراحة والانفراد بالنفس. ومن ذاك الداخل البيتي يخرجون إلى الحياة في الشوارع، مشياً وحركةً وتنقّلاً وعملاً وجلوساً في المقاهي والمطاعم، ودخولاً كثيفاً إلى دور العروض الفنّية والمتاحف في صفوف وحشودٍ منتظمة، بلا زحام أو تذمّر من انتظار، ومن الصباح حتى ساعاتٍ متأخّرةٍ من الليل. كأنّما لا أحد يظنّ أنّ أحداً آخر يسبقه أو يريد أن يسبق أحداً في الوصول، في بلادٍ تعارفت على أنّ الحياة لا تُطاق في التسابق والعنف والانقضاض والتشاطر والمناكفات والتدافع والافتراس.

والحياة في باريس يحدث معظمها في الشوارع، وسط الحشود، في المقاهي والمطاعم وقاعات العروض والمتاحف. حياة عامّة تسيل بإيقاعات وأهواء وانشغالات كثيرة متباينة ولا تُحصى.

سكّان باريس لا يجمعهم سوى ذاك الرباط الخفيّ المزمن حين يخرجون من بيوتهم الضيّقة والوظائفية في معظمها

ندوة في معهد العالم العربيّ

لمعهد العالم العربيّ في باريس حصّته أو نصيبه من هذه العروض والانشغالات الثقافية: الاحتفال بالذكرى الخمسين لتأسيس دار نشر “سندباد” التي كان لها السبق في ترجمة الأدب العربي المعاصر إلى اللغة الفرنسية، منذ أسّسها بيار برنار سنة 1972 في باريس، معتبراً أنّ الآداب دليل أساسي على تنوّع الثقافات والحضارات التي من الضروريّ حضورها في المشهد الثقافي الفرنسي والأوروبي. وبدعم من برنار، تفرّعت سنة 1995 عن “سندباد” دار جديدة هي “أكت سود” المتخصّصة في الترجمات الأدبية والثقافية العربية الجديدة على وجه التخصيص. ومنذ تأسيسها حتى اليوم أشرف على إدارة “أكت سود” فاروق مردم الذي غادر موطنه الأوّل في العاصمة السورية إلى باريس للدراسة في الستّينيّات من القرن العشرين. وبينما كانت “سندباد” تسلّط الضوء على الإٍسلام كدين وحضارة، عملت “أكت سود” على التخصّص في ترجمة سلاسل من النتاج الأدبي العربي، شعراً ورواية، من مصر ولبنان وفلسطين وسوريا خصوصاً.

ومنذ ثمانينيّات القرن الماضي كانت الرواية العربية قد بدأت تزدهر ويتوسّع نتاجها ونشرها، ولا سيّما في بيروت عاصمة النشر العربي منذ الخمسينيّات. وسرعان ما ورثت الرواية نجوميّة الشعر العربي الحديث. وهذا ما واكبته “أكت سود”، وليدة “سندباد”،  في اختياراتها للترجمة والنشر في باريس، وفقاً لخبرة فاروق مردم ومتابعته الدائمة لمستجدّات المشهد الروائي والثقافي في بيروت وسواها من العواصم العربية. وهكذا تصدّرت “أكت سود” حركة ترجمة الجديد والمميّز في عالم الرواية والشعر، ونشره في فرنسا، حتى أصبحت هذه الدار في طليعة الدور الأوروبية التي تترجم عن العربية.

في إحدى قاعات معهد العالم العربي الباريسي، نُظِّمت، احتفالاً بالذكرى الخمسين لتأسيس “سندباد”، ندوة موضوعها “الترجمة والأدب”. فشارك فيها المستعرب فرانك مرمييه، والباحثة رانيا سمارة، والباحثة والمترجمة ماريان بابوت، وصبحي حديدي الباحث السوري المقيم في باريس، وجمانة الياسري، وفردريك لاغرانج، إضافة إلى فاروق مردم. وكان الحضور العربي كثيفاً، كتّاباً وباحثين وشعراء وروائيّين، مقيمين في باريس، إلى جانب أقرانهم من الفرنسيين من مترجمين وباحثين وأكاديميين في الحقول الثقافية والأدبية.

كانت القاعة التي أُقيمت الندوة فيها تعرضُ في جنباتها سلاسل من ترجمات “سندباد” و “أكت سود”. وعمارة معهد العالم العربي التي تعود إلى زمن ما قبل التغيّر المناخي، قوامها المعدن والزجاج. وكان النهار الباريسي مشمساً، وتخترق شمسُه المربّعات المعدنية والزجاجية الفسيفسائية المستوحاة من الفنّ الإسلامي الزخرفي. وهذا ما جعل الجوّ في القاعة صيفيّاً ويميل إلى حرارة مرتفعة، كأنّما خريف باريس صار ملحقاً بفصل الصيف. والمنتدون في شؤون الترجمة والأدب تحرّروا من سترات يوميّاتهم الخريفية الباريسية، وتبادلوا الرأي والأفكار في طقس صيفي، بعث حرارة في النقاش.

إقرأ أيضاً: معرض “ألو بيروت”: ركام أزمنة التباهي والتشاوف والإفلاس

وإلى هذه الندوة أُقيمت أيضاً قراءات أدبية متنوّعة رافقتها معزوفات موسيقية. وفي نهارٍ آخر جرى لقاء ثقافي جامع مع فاروق مردم موضوعه تجربته في “أكت سود” وإدارته سلسلة ترجماتها. أمّا في بيروت فأحيا المركز الثقافي الفرنسي لمناسبة خمسينيّة “سندباد”، قراءات أدبية وشعرية، شارك فيها كلّ من عباس بيضون، جمانة حداد، وإلياس خوري.

مواضيع ذات صلة

سجون داعش… متحف افتراضيّ لحكايا الجرائم

قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي…

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…