لم تكن المغنية الراحلة صباح تعلم أن أغنيتها “ألو بيروت” المغناجة اللاهية في ستينات “السعادة اللبنانية”، سوف تصير في أيلول 2022 عنوان أو اسمَ معرضٍ فني في “بيت بيروت” المتحفي لحفظ ذاكرة المدينة في الحروب (1975- 1990). وقد جمع فنانو المعرض (يستمر حتى آخر السنة) ومنظّموه الكثيرون (حوالى أكثر من مئة شخص) بقايا أشياء ومقتنياتٍ وصور من بيروت، إضافة إلى حكاياتٍ وأخبارٍ وشهادات عنها، إلى جانب أفلام فيديو وقصاصات صحفٍ وتسجيلات صوتية تروي تجارب وذكريات أصحابها في المدينة.
التصحّر والرّكام
زائر المعرض والمتجوّل في قاعات المتحف الكبير، يحيّره التوارد بين الأغنية المغناجة اللاهية وبين محتوياته الكثيرة الباعثة على دوار زمني ومكاني يتشبّثُ بالحواس والمشاعر والذاكرة، فيما هو يقفُ محدّقًا في المعروضات الغنية، ومنها وجه صباح البهيّ المبتسم مشرقًا في صورة قديمة لها منتصبة بين حطام المقتنيات المحترقة التي جُمعت من مربع “كاف دو روا” (كهف الملوك) الليلي في محلة الزيتونة للحياة الليلية البيروتية. أما الدوار فمبعثه أقدار بيروت في ركام تاريخها الحديث المعاصر الذي يمكن تشبيه صوره وبقاياه المادية بما كتبته الباحثة الهندية في شؤون التغيُّر المناخي في الكرة الأرضية، آنا بربادارشيني: “تُظهر آثار التغيّرات المناخية في الصين تماثيل بوذية مدفونة منذ وقت طويل على ضفاف نهر اليانغتسي. ومياه نهر الدانوب المنحسرة في بلدان أوروبية، تكشف عن سفنٍ حربية نازية. وفي الطين الجاف في قاع بحيرة ميد في ولاية نيفادا الأميركية، تظهر جثث ضحايا جرائم قتل”. وتقرير الباحثة الهندية نشرته صحيفة “الشرق الأوسط” السبت 24 أيلول المنصرم.
حسب منظّمي معرض “ألو بيروت” أنه “يهدف إلى إعادة التفكير في علاقتنا ببيروت، ومساءلة حاضرنا باستعادة تاريخنا في بلدٍ فقد ذاكرته، ويفتقر إلى المعرفة بتاريخه الذي غالبًا ما نميل إلى تجميله لدى الحديث عن ما يسمى عصر بيروت الذهبي”
نعم، هناك شيء من التشابه بين هذه الصور المادية من جهات العالم وما يحتويه معرض “ألو بيروت”: هيكل أو مجسم رخامي أو عظمي ضخم للبنان الطبيعي، جبالًا وأودية وأنهارًا وشواطئ، تنبعث من داخله أضواء متتالية ومتدرّجة في قاعة مظلمة جرداء صامتة. في غرفة جانبية مطبخُ منزل قديم يذكّر بزمن بيروت في الخمسينات، به جهاز راديو عتيق يعمل على البطارية، وربما بُعيد وصول الكهرباء إلى البيوت. من بين ستائر ممزّقة ومحترقة أطرافها تدخل إلى بهو الاستقبال في ملهى “الكاف دو روا”. في زاوية البهو فساتين سهرة مبهرجة الألوان، سترات رجالية داكنة، معلّقة في بقايا خزانة خشبية، وغبار مزمن على الفساتين والسترات. وفي البهو أيضًا طاولتان أو ثلاثٍ مغطّاة بشراشف خمرية عتيقة. على الطاولات شاشات صغيرة تعرض صورًا صامتة بالأسود والأبيض لرواد الملهى الليلي يرقصون رجالًا بثياب السموكن الرسمية وتطوّق أعناق بعضهم السمينة بابيّونات سوداء، ونساء في أزياء الديكولتيه وبياض أعناقهن وأذرعهن يشعّ في العتمة. والرقصة من ذلك النوع الهادئ التمايل في المساحة الليلية الضيقة. وعلى الجدار صورة مكبّرة لبعضٍ من “دهاقنة” السياسة اللبنانية في الخمسينات والستينات. أعناقهم السمينة تطوّقها أيضًا بابيّونات سوداء. رؤوسهم وعيونهم ملتفتة إلى الخلف، حيث صف من نساء “مجتمع بيروت المخملي”، حسب لغة ذاك الوقت الذي كانت صوره بالأسود والأبيض بعدُ. والأرجح أن هذه الصورة نشرتها على صفحات واحدة من المجلات البيروتية المصوّرة التي كانت تطرَبُ بنشر سهرات ذاك المجتمع ودهاقنته في المرابع الليلية.
قهقهات الساعة العاشرة
في صور تنقل مشاهد من “مسرح الساعة العاشرة” الهزلي الليلي البيروتي، وجوه مقهقهة لكميل شمعون، بيار الجميل، كمال جنبلاط، وصائب سلام رافعًا يده بسيكاره المشتعل الطويل. وهذا كله وأمثاله معروض وسط حطام أثاثات الملهى المحترقة. وهناك في الزاوية كومة أحذية بالية. ومن السقف تتدلّى أشرطة محترقة وخيطان عناكب. ولتكتمل هذه المشاهد وتصير كابوسية، ليس من الصعب تخيُّل هيكل عظمي تحت حطام ذاك المقعد هناك في زاوية الملهى. وإذا تجاوزتَ هذه القاعة، يطالعك فجأة كشكُ قطْعِ التذاكر في “مسرح شوشو الوطني” بضوءٍ مختنقٍ في داخله، حيث تتبعثر ملتصقة على الجدار الصغيرة بطاقات وصور عتيقة تالفة. أما في القاعة الرئيسة الكبيرة من “بيت بيروت” المتحفي، فتطالعك مشاهد وأشياء من أسواق وسط بيروت القديم: عربة عليها أكياس أعشاب مجففة. طاولاتٌ وكراسي في ما كان يسمى “مقهى الأزاز” (الزجاج). وفجأة جدار يظهر عليه مشهد من مقهى “الهورس شو” في شارع الحمراء. يليه مغسلة محطمة، ثم مجلى مطبخ قديم تصطفّ عليه زجاجات عطور من تلك المصنوعة محليًا وتُباع بالمفرّق في زجاجات صغيرة.
مقتنيات وتجهيزات المعرض الفنية كلها وسواها الكثير من أمثالها، معروضة في مبنى تراثي قديم من طبقاتٍ أربعٍ صدّعته الحرب على خط التماس البيروتي في منطقة السوديكو
ذاكرة بيروت الممزّقة
ليس هذا سوى غيضٌ من فيض ركام أزمنة مدينة بيروت. قبل أن تطالعك في قاعة واسعة مساحة من رمال متحرّكة في صندوق حديد كبير مكشوف. تنبثق فجأة من بُقَعِ الرمل وتختفي مطمورة فيه أشياءٌ ومجسّمات محطّمة، منها قطع من أدوات صحية، مجسّم صغير متصدّع من تلك البنايات التي تسمّى “تورات” سكنية. على جوانب الصندوق سمّاعات تستمعُ منها ذكريات طالبة في مدرسة “الكرمل سان جوزيف” الزائلة في فردان. وتتحدّث الطالبة عن ملاعب المدرسة الفسيحة، أدغال صخورها وتلال رمالها وأشجارها الكبيرة المعمّرة.
ومقتنيات وتجهيزات المعرض الفنية هذه كلها وسواها الكثير من أمثالها، معروضة في مبنى تراثي قديم من طبقاتٍ أربعٍ صدّعته الحرب على خط التماس البيروتي في منطقة السوديكو، فأعيد ترميمه وتجهيزه ليصير متحفًا لذاكرة الحرب التي حرص الترميم على ترك آثارها وحرائقها ومرابض قنّاصيها حاضرة في المبنى. من فتحات بين أكياس رمل القنّاصين تظهر شاشات صغيرة تعرض مشاهد من تظاهرات انتفاضة 17 تشرين 2019. جدران المبنى كلها مثقّبة بالطلقات. الدرجات القديمة بين طبقاته مكوّمة حجارتها في المنور الكبير. وفي هذا الجوار الركامي والكابوسي تتنقّلُ بين قاعات المعرض، كأنك تمشي في حطام ذاكرة بيروت الممزّقة.
أخبار الستينات
وحسب منظّمي معرض “ألو بيروت” أنه “يهدف إلى إعادة التفكير في علاقتنا ببيروت، ومساءلة حاضرنا باستعادة تاريخنا (…) في بلدٍ فقد ذاكرته، ويفتقر إلى المعرفة بتاريخه الذي غالبًا ما نميل إلى تجميله لدى الحديث عن ما يسمى عصر بيروت الذهبي”، على ما ورد في افتتاحية جريدة المعرض، تحت عنوان “كيف وصلنا لهون؟”. وهذا الذي وصلنا إليه اليوم، ومنذ أكثر من سنتين، صار معلومًا ونعيشه في كل ساعة من يومياتنا اللبنانية الراهنة.
إقرأ أيضاً: ركام الملاهي الليليّة: معرض بيروتي للحنين والأسئلة الصعبة
وتشغل جوانب من حياة بروسبير غي بارا (اللبناني- الفرنسي، صاحب مربع “الكاف دو روا” وفندق “أكسيليسيور” البيروتي في الزيتونة) محورًا أساسيًا في معرض “ألو بيروت”. وإلى جانب أخبار كثيرة عن الحوادث اللبنانية المزامنة لليالي المربع الليلي في الستينات البيروتية، تتصدّر جريدة المعرض مقالة للسيد غي بارا إلى جانب صورته. وتبدأ المقالة المكتوبة بالفرنسية في الستينات على الأرجح بجملة: “يئس اللبنانيون من دولتهم. ومصيرهم معلّق بأيدي سلطات عامة لا تحرّك ساكنًا (…) عاش بلدنا فترة ازدهار ظاهري. والآن يغرق في الفقر الحقيقي. في بلدنا لا نذهب أبعد من وضع حجر أساس لمشاريع لن تبصر النور أبدًا. لا نعرف سوى افتتاح مشاريع سرعان ما تُلغى. دفعُ ثمن بضائع لن يتسلّمها أحد. وإطلاق شعارات فارغة، وتشكيل لجان رمزية لن تُنجز شيئًا. لماذا؟ (…) لأننا نريد أن نكون وسط الأضواء من دون أن نعمل في الكواليس. لأننا (نستغرق) في التباهي، لا في القيادة”. وفي جريدة المعرض التي استَلّت مقتطفات أخبارها من أزمنة التباهي والتشاوف، نقرأ تحت عنوان “هل تعلم؟”: “في عام 1970 سيطر نحو 20 وسيطًا على 80 في المئة من سوق الحمضيات، و3 وسطاء على ثلث المحصول. وسيطر 25 وسيطًا على أكثر من ثلثي سوق التفاح، و3 وسطاء على ثلث المحصول”. وفي زاوية صغيرة من الجريدة بيان من بنك “إنترا”، يعلن أن إدارته “تأسف لإعلام زبائنها أنها مضطرة لإقفال المصرف ابتداءً من 15/10/1966، بسبب فقدانها السيولة النقدية”. أي أن المصرف أعلن إفلاسه. وإلى جانب الإعلان مقالة عنوانها: “بعد إنترا إلى أين؟”.