ركام الملاهي الليليّة: معرض بيروتي للحنين والأسئلة الصعبة

مدة القراءة 5 د

“كاف دو روا”، أي قبو الملوك أو كهفهم الليليّ، في بيروت “الزمن الجميل” (الربع الثالث من القرن العشرين) هو موضوع معرض يقلب لوعة الحنين اللبناني إلى ذاك الزمن إلى تساؤلات مصدرها حاضر بيروت ولبنان الراهن ووصله بماضيهما.

ركام الكاف دو روا

وُلدت فكرة المعرض لدى صحافية فرنسية من أصل لبناني هي دلفين درماسي، عندما كانت تجول مستطلعةً في بيروت قبل نحو عقدين من السنوات، وتجمع مشاهد وصوراً من ماضيها، فاستوقفها في عين المريسة مبنى فندق إكسليسيور متصدّعاً خرباً مهملاً، وبه مربع كاف دو روا الليلي الشهير في بيروت الستينيّات، فجعلت ركامه مادّة لبحث واستطلاع دام سنوات، وشاركها في العمل فريق لبناني من باحثين وصحافيين يهتمّون بذاكرة بيروت وتراثها.

الفندق كان يملكه أيضاً رجل أعمال فرنسي من أصل لبناني يدعى بروسبير غي بارا، عندما كانت النخب البيروتية كوزموبولتيّة وخليطاً من جنسيّات وأهواء وأمزجة كثيرة. لكنّ درماسي، إلى جانب جمعها ركام مقتنيات الملهى الليلي وأرشيفه وصوره المحترقة أطرافها في زمن حروب لبنان الأهلية، اهتمّت أيضاً ببيروت ولبنان الستينيّات الآخرَيْن: أحزمة البؤس حول العاصمة، التظاهرات العمّالية والطلّابية، إفلاس بنك أنترا الشهير…

من هذا الخليط من الصور والمشاهد والبقايا تألّف معرض واسع الدلالات المتعارضة تحت عنوان “ألو بيروت” مستوحى من أغنية المطربة الراحلة صباح بصوتها المتفجّر إغواءً ضاحكاً: “ألو بيروت/من فضلك ياعيني/عطيني بيروت/عجل بالخط شويِّ”.  ومساء أمس الخميس 15 أيلول افتُتح المعرض في صالات “بيت بيروت” في محلّة السوديكو. فرقة “كلاون مي إن” المعنيّة بالإعداد للمعرض جالت أيّاماً في المدينة ودعت الناس إلى المعرض. وقالت المخرجة سابين شقير إنّ الإعداد له شاركت فيه المغنّية ستيفاني سوتيري تتوليان من خلال الدعاية والإعلان، وهو “يتعمّق في تاريخ العاصمة الذي طالما وُصف بالتاريخ الذهبي”. وانطلق العاملون في المشروع من أنقاض أشهر الملاهي الليلية في عين المريسة لعرض بقايا الزمن الغابر. لكنّ المعرض ليس للحنين فحسب، بل هو “يوثّق حقبة من الفساد والسياسات الخاطئة التي سادت في لبنان” ما قبل الحرب الأهلية.

وعملت مبادرة “حيّ الجامعة الأميركية في بيروت” لمدّة 6 أشهر في الإعداد للمعرض الذي يشمل معطيات “حول التحوّلات الثقافية والاقتصادية والسياسية للمدينة من الستينيّات حتى اليوم، استناداً إلى أرشيف عُثر عليه في ملهى Caves Du Roy الليلي المهجور في فندق إكسليسيور. وتعاون في العمل فنّانون وصحافيون وباحثون وجامعو تحف ومصمّمون.. اجتمعوا للتعبير عن علاقة الحب/الكراهية لهذه المدينة”.

عند افتتاح المعرض في السادسة والنصف من مساء أمس بمعزوفات موسيقية شرقية، ومن شرفة “بيت بيروت” غنّت رنين شعّار لبيروت مع فرقة من 6 موسيقيّين.

سحر البورجوازيّة الاستعراضيّة

تكشف جولة سريعة في صالات معرض “ألو بيروت” متاهات من التصوّرات والصور والذكريات الموصولة بحاضر المدينة وأمسها القريب. فإلى ركام المادّة الأرشيفية والأثاثات والصور الفوتوغرافية (كلّها بالأسود والأبيض) من الكاف دو روا، تحضر فيديوهات عن ثورة تشرين 2019، للقول إنّ مطالب هذه الثورة تحاكي ما كانت الحركات الاجتماعية اللبنانية تطالب به في الستينيّات والسبعينيّات. وهذه من المبادرات النادرة في لبنان. فالمعارض الاستعاديّة التي لا يطربها الحنين والدعاية للزمن الجميل وسحره، بل تحاول استعادة كواليسه أو نيكاتيف الصور الزاهية: استغراق النخبة السياسية والبورجوازية اللبنانية في “الفشخرة”. وهذه كلمة عامّيّة مصرية تعني عبادة الاستعراض والمظاهر والحداثة شبه الصوريّة أو الصنميّة.

في إحدى الصور في الكاف دو روا المحترقة الأطراف، يظهر مثلاً المير مجيد أرسلان إلى جانب صبري حمادة في مقدَّم الساهرين تخالطهم نساء من جميلات المجتمع اللبناني الراقي. والحقّ أنّ صور الملهى الليلي البيروتيّ الأشهر تُظهر أنّ النساء البارقات الرافلات في الزهو والأناقة هنّ اللواتي لهنّ تُدار الرؤوس وتشرئبّ الأعناق وتلتفت الأعين.

شفاء من الحنين

اليوم لمناسبة هذا المعرض (سوف يتوسّع “أساس” لاحقاً في متابعة دلالاته الراهنة) يحضر شغف الراحل جورج الزعنّي في ثمانينيّات بيروت الحروب السوداء بصور ماضيها التي دعا عائلات بيروت إلى جمعها والإتيان بها إليه. وقد صنع منها معرضاً في صالة “إليسار” بشارع المكحول، مشعلاً الحنين إلى الأيام الخوالي المحترقة. وقال الكاتب والروائي حسن داود لمناسبة افتتاح المعرض إنّ الزعنّي “تعصف الأفكار في رأسه كما تعصف الرياح بشجرة”. والرياح لم تكن سوى الحنين إلى بيروت الثلاثينيّات والأربعينيّات والخمسينيّات، بعدما هبّت عليها عواصف حروب السبعينيّات والثمانينيّات ودمّرتها.

إقرأ أيضاً: في وداع الصيف والمغتربين: رحلوا.. وبقي الانهيار

يبدو اليوم أنّ مؤلّفي معرض “ألو بيروت” قد غادروا الحنين إلى الأسئلة الصعبة والمرّة التي ما تزال حيّة وتتكرّر في كلّ يوم وساعة.

مواضيع ذات صلة

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…

90 عاماً من فيروز: صوت تاريخنا… ولحن الجغرافيا

اليوم نكمل تسعين سنةً من العمر، من الإبداع، من الوطن، من الوجود، من فيروز. اليوم نحتفل بفيروز، بأنفسنا، بلبنان، وبالأغنية. اليوم يكمل لبنان تسعين سنةً…

سيرتي كنازحة: حين اكتشفتُ أنّني أنا “الآخر”

هنا سيرة سريعة ليوميّات واحدة من أفراد أسرة “أساس”، وهي تبحث عن مسكنٍ لها، بعد النزوح والتهجير، وعن مساكن لعائلتها التي تناتشتها مناطق لبنان الكثيرة…