بعد أيام، تدخل الحرب الأوكرانيّة شهرها التاسع. ما كان متوقّعاً أن يكون مجرّد نزهة يقوم بها فلاديمير بوتين، على نسق نزهته السورية حيث قتل ودمّر وشرّد مواطنين سوريين من دون حسيب أو رقيب، تحوّل إلى كابوس عالمي. استطاع الرئيس الروسي تخريب العالم الذي بات يعاني من أزمتَيْ طاقة وموادّ غذائية. لكنّه لم يستطع تحويل روسيا إلى دولة عظمى على غرار ما كان عليه الاتحاد السوفييتي حتّى نهاية عام 1991.
لا يزال باكراً تقويم ما سيكون عليه العالم بعد انتهاء الحرب الأوكرانيّة، لكنّ الثابت، أقلّه إلى الآن، أنّ قراراً حاسماً اتُّخذ على الصعيدين الأميركي والأوروبي. فحوى القرار أن ليس مسموحاً لبوتين تحقيق انتصار في أوكرانيا، لا لشيء إلّا لأنّ سقوط أوكرانيا يعني سقوط أوروبا. من الواضح أنّ الرئيس الروسي لم ينظر جيّداً إلى خريطة أوروبا وموقع أوكرانيا في هذه الخريطة قبل اتّخاذ قراره بغزو البلد الجار.
كشفت حرب أوكرانيا ضعف روسيا وجيشها وضعف السلاح الذي تنتجه، وكشفت على وجه التحديد كم أنّ فلاديمير بوتين لا يعرف العالم ولا يعرف شيئاً عن الاقتصاد وأهمّيّته وعن التطوّر التكنولوجي الأميركي والأوروبي. يرفض الاعتراف بأنّ الاتحاد السوفييتي انهار لأسباب اقتصادية أوّلاً. لم يستطع النظام السوفييتي إقامة اقتصاد فعّال قابل للحياة والتطوّر. كان كرة حديد ضخمة مليئة بالصواريخ والقنابل النووية، لكنّ تلك الكرة كانت تقف على ساقين ضعيفتين هما الاقتصاد غير المنتج العاجز عن خلق نوع من المنافسة التي تستطيع حثّ المواطن على العمل.
لا يعرف بوتين، خصوصاً، أن ليس مسموحاً لبلد حجم اقتصاده أصغر من حجم الاقتصاد الإيطالي لعب دور القوّة العظمى
نعم، يمكن القول إنّ العالم كلّه يعاني بسبب غزوة أوكرانيا، لكنّ هذه الغزوة لم تؤدِّ إلى قيام عالم متعدّد الأقطاب. في نهاية المطاف، لا يمكن تجاهل أنّ روسيا باتت في حاجة إلى الحضن الإيراني. بات فلاديمير بوتين يتّكل على المسيَّرات الإيرانيّة كي يستمرّ في حربه الأوكرانيّة، وعلى قذائف مدفعيّة من كوريا الشماليّة. فاجأ الأوكرانيون برئاسة فولوديمير زيلينسكي فلاديمير بوتين الذي بدت شخصيّته أقرب إلى شخصيّة صدّام حسين الذي ارتكب كلّ الأخطاء التي يمكن لسياسي ارتكابها بغزوه الكويت صيف عام 1990. كان ذلك في الثاني من آب من ذلك العام تحديداً.
لم يكن صحيحاً، أبداً، أنّ الأميركيين أوقعوا صدّام في فخّ. كلّ ما في الأمر أنّه رجل لا يعرف المنطقة والعالم. لذلك ذهب إلى الفخّ الذي نصبه لنفسه. ما ينطبق على الرئيس العراقي الراحل ينطبق أيضاً على فلاديمير بوتين الذي يتبيّن أكثر فأكثر كلّ يوم أنّه لا يعرف العالم. لا يعرف أوروبا ولا يعرف أميركا، وحتّى لا يعرف الصين التي اتّخذت موقفاً بارداً من حربه الأوكرانيّة.
لا يعرف بوتين، خصوصاً، أن ليس مسموحاً لبلد حجم اقتصاده أصغر من حجم الاقتصاد الإيطالي لعب دور القوّة العظمى، على الرغم من امتلاك قنابل نووية وصواريخ وثروة كبيرة تتمثّل بالنفط والغاز، وعلى الرغم من أنّ أوروبا ستبرد في هذا الشتاء بسبب النقص في إمدادات الغاز الروسي.
غيّر فلاديمير بوتين العالم، لكنّ القرار المتّخذ أوروبيّاً وأميركياً هو قرار يقضي بالاستغناء عن الغاز الروسي من جهة، وعدم التعاطي مع الرئيس الروسي الحالي من جهة أخرى.
لا يزال العالم في الوقت الراهن في مرحلة انتقالية. يصعب الكلام عن وجود توازن مع أميركا تقيمه الصين التي تواجه مشاكل داخليّة ضخمة، وذلك على الرغم من وجود رجل قويّ فيها هو شي جين بينغ الذي يسعى إلى أن يكون ديكتاتوراً آخر. عاجلاً أم آجلاً، سيكتشف شي أنّ عليه التركيز على الوضع الداخلي للصين التي ما زالت تعاني من كوفيد – 19 ومن أزمة اقتصادية تتعمّق أكثر فأكثر. ما من شيء يعكس عمق هذه الأزمة أكثر من سوق العقارات الذي يتردّى يوميّاً، والذي جعل السلطات الصينية تدمّر مشاريع بناء ضخمة في مدن عدّة خشية انهيار السوق العقاريّة.
الأكيد أنّ دولاً عدّة في العالم الثالث، من بينها مصر، تعاني أزمات اقتصادية حادّة تسبّبت بها، بين ما تسبّب بها، تداعيات الحرب الأوكرانية. لكنّ الأكيد أيضاً أنّ بلداً مثل إيران لن يتمكّن من استغلال الضعف الروسي كي يثبت أنّ “الجمهورية الإسلاميّة” صارت مركز استقطاب دوليّ، وأنّها تستطيع الهيمنة على الخليج العربي والشرق الأوسط.
على غرار ما حلّ بروسيا، ستكتشف إيران قريباً أنّ مشكلتها مع الوضع الداخلي الإيراني ومع الشعوب الإيرانيّة التي تتوق إلى الانتماء إلى ثقافة الحياة وليس إلى ثقافة الموت التي تحاول “الجمهوريّة الإسلاميّة” نشرها في العراق وسوريا ولبنان واليمن… وتحاول تصديرها إلى مناطق في شمال إفريقيا عبر مسيّرات تزوّد بها “بوليساريو” التي ليست سوى أداة لدى النظام الجزائري.
لا يستطيع المرء المبالغة في التفاؤل في أيّ اتّجاه كان، لكنّ الثابت أنّ العالم، بفضل فلاديمير بوتين، تغيّر جذريّاً نحو الأسوأ. مثله مثل هتلر، لن يكون مسموحاً له بالانتصار… مهما بلغ الثمن الذي ستدفعه أوروبا، ومهما كان لحرب أوكرانيا من تأثيرات سلبية على دول من العالم الثالث.
تبقى نقطة مضيئة، مضيئة إلى حدّ ما، وسط كلّ هذه العتمة العالمية. تتمثّل هذه النقطة في زوال الأوهام العربيّة في ما يخصّ الاعتماد على الولايات المتحدة. هناك دول عربيّة عدّة، من بينها المملكة العربيّة السعوديّة ودولة الإمارات، تبحث عن مصالحها في إطار عامّ يتجاوز أميركا، التي انسحبت من أفغانستان بالطريقة التي انسحبت قبل ما يزيد على عام، ولا تريد في الوقت الراهن أخذ التهديد الإيراني للأمن الإقليمي، خصوصاً انطلاقاً من اليمن، على محمل الجدّ.
إقرأ أيضاً: سذاجة الغرب… والعلاقة الروسيّة – الإيرانيّة
سيعاني العالم طويلاً من فلاديمير بوتين، الذي سيتوجّب عليه الخروج من السلطة عاجلاً أم آجلاً… ولكن بعد تسبّبه بكارثة على كلّ المستويات. من يعالج هذه الكارثة وكيف ستُعالَج؟ لا جواب عن هذا السؤال في عالم لا تزال أميركا، إلى إشعار آخر، تلعب فيه دوراً لا يستطيع أيّ طرف آخر لعبه… وذلك على الرغم من إدارتها الحائرة والمتردّدة.