السُنّة والترسيم: شكراً بشّار الأسد

مدة القراءة 4 د

يستحقّ منّا نظام بشار الأسد للمرّة الأولى أن نقول له “شكراً”، بعد رفضه استقبال وفد العهد الراحل بعد أيام لبحث مسألة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وسوريا. يستحقّ هذا النظام الذي قتل منّا مَن قتل، وشرّد من شعبه مَن شرّد أن نقول له شكراً لسببين: الأوّل لخذلانه العهد في محاولاته اختراع الإنجازات قبل أيام من نهايته. أمّا الثاني فلأنّه حفظ ماء وجه رئاسة الحكومة المغيّبة عن ملف الترسيم بشقيّه الإسرائيلي والسوري، مشاورةً وتشكيل وفود وقراراً. وفي هذا الإطار تُستعاد صورة الرئيس نجيب ميقاتي يدخل القصر الجمهوري في بعبدا متأبّطاً عدداً  كبيراً من الملفات للمشاركة في اجتماع الرؤساء الثلاثة في 3 تشرين الاول الفائت لمناقشة اتفاق ترسيم الحدود البحرية أو ما عُرف باتفاق هوكستين. يوحي إليك مشهد الميقاتي أنّه كان عرّاب الاتفاق والمفاوض الأوّل أو الرئيسي فيه، بخاصة أنّه عند التقاط الصورة التذكارية للّقاء لم يكن بيد الرئيسين ميشال عون ونبيه برّي أيّ ملف.

يخالف الانطباع الذي تركته صورة ميقاتي وملفّاته الواقع المحيط بملف الترسيم، فالذاكرة حاضرة، وهي تستذكر أنّ المفاوضات جرت على قسمين:

– الأوّل امتدّ عشر سنوات وتولّى فيه رئيس مجلس النواب نبيه برّي (المنصب الشيعي الأوّل  في السلطة) المفاوضات، وانتهى العام 2021 باتّفاق إطار جرى الاحتفال به في قصر عين التينة حيث أعلن الرئيس بري انتقال الملف إلى عهدة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون (المنصب المسيحي الأوّل)، الذي شكّل اللجان ثمّ أعفاها وعيّن المستشارين والناطقين والمفاوضين من المقرّبين منه، وآخرهم  وليس أوّلهم نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب، مع الإشارة إلى أنّه كان باستطاعته تعيين وزير الخارجية عبد الله بوحبيب المحسوب عليه، أي من حصّة رئاسة الجمهورية، وأحد أبرز أصدقائه كما هو معروف، حفظاً لماء وجه الحكومة ورئاستها على صعيد الشراكة الوطنية والمنطق السياسي والدستوري.

تغييب السُنّة عن مفاوضات الترسيم ليس صدفة، ولا خطأ تقنيّاً عارضاً، بقدر ما هو استمرار لمسلسل إقصاء السُنّة عن المعادلة الوطنية، واعتبارهم ملحقاً فاقداً للتأثير لزوم “الديكور الوطني”

خلاصة ما سبق أنّ مفاوضات الترسيم كانت محصورة ما بين المكوّن الشيعي والمكوّن المسيحي، فيما المكوّن السُنّي كان غائباً أو مغيّباً.

استعراض هذا الواقع ليس خافياً على أحد. لكنّ المخفيّ في الأمر يكمن في السؤال الآتي: إذا لم يشارك الرئيس ميقاتي في المفاوضات لا من قريب ولا من بعيد، فما هي الملفّات التي تأبّطها إلى قصرا بعبدا؟ هل هي أوراق بيضاء أم كانت الحقيبة خالية؟!

تغييب السُنّة عن مفاوضات الترسيم ليس صدفة ولا خطأ تقنيّاً عارضاً، بقدر ما هو استمرار لمسلسل إقصاء السُنّة عن المعادلة الوطنية، واعتبارهم ملحقاً فاقداً للتأثير لزوم “الديكور الوطني” للادّعاء في المناسبات والاحتفالات أنّ لبنان الكبير ما زال قائماً.

أراد الرئيس ميقاتي بالملفّات الفارغة التي كان يحملها أن يوحي لنا نحن السُنّة أهله وناسه، ولا لأحد غيرنا، أنّه حاضر وشاطر وفاعل في كلّ ما يحصل، فأصدر مكتبه الإعلامي بياناً جاء فيه: “قدّم الرئيس ميقاتي ملاحظاته حول الاتفاق وجاءت متطابقة مع ملاحظات الرؤساء”، يعني بالتفسير الشعبي “ياعيد ليتك ما جيت”…

بالمقابل، قد يُسجّل للسُنّة أنّ تغييبهم عن ملفّ الترسيم كان فرصة لعدم دخولهم أيّ نوع من أشكال التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي. هو انجاز لا يُكتَب فضله لأحد وإن كان يُمثّل إيماناً في داخل عقول وقلوب سُنّة لبنان، بل هو إنجاز يُسجّل لكيديّة البعض وسعيهم الدؤوب إلى إخراج السُنّة من المعادلة الوطنية.

في  22 تموز 1987، صعد أوّل رائد فضاء سوريّ إلى الفضاء الخارجي في مركبة الفضاء”سويوزM3″ ضمن برنامج الفضاء السوفييتي، وهو من مواليد مدينة حلب ويدعى محمد فارس. فور إعلان الخبر في وسائل إعلام النظام، انتشرت نكات بالجملة في الشارع السوري تهكّماً على ما حصل، وأطرفها يقول إنّ رائد الفضاء محمد فارس عاد إلى الأرض وقد لُفّت يداه بالضمادات الطبيّة، والسبب أنّه كلّما أراد لمس أحد أزرار المركبة الفضائية كان الروّاد الروس يصفعونه على يده قائلين زاجرين: “لا تلمس هذا الزر”، وانتهت الرحلة من دون السماح له بلمس أيّ زر في المركبة.

إقرأ أيضاً: مزبلة التاريخ.. أكثر الأمكنة ازدحاماً

انتهى اجتماع بعبدا الرئاسي نهار الإثنين في 3 تشرين الأوّل، وكان لافتاً أنّ الرئيس ميقاتي خرج من دون ملفّاته التي جاء بها، فهل تركها داخل قاعة الاجتماع؟ أم رماها قبل أن يخرج من القصر؟

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…