“مزبلة التاريخ” عبارة تتردّد كثيراً على ألسنة السياسيين، وكثيراً جدّاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي حيث يستعملها الناس في مجملهم للتعبير عن نهاية شخص أو حدث أو أيديولوجية. التتبّع التاريخي لهذه العبارة يوصلك إلى أنّ ظهورها الأوّل كان في القرن التاسع عشر في أماكن عديدة من كتب وخطابات. إلا أنّ شعبية هذا المصطلح جاءت عبر ليون تروتسكي* الذي استخدمه ردّاً على “المناشفة*” الذين انسحبوا من مؤتمر السوفييت الثاني الذي انعقد في بتروغراد في 25 تشرين الأول 1917، وكانت النتيجة تمكين البلاشفة من السيطرة على الحكم، فصاح تروتسكي قائلاً: “إنّكم أناس بائسون منعزلون! أنتم مفلسون انتهى دوركم، اذهبوا إلى حيث تنتمون من الآن فصاعداً، أنتم في مزبلة التاريخ”.
تواصل استخدام هذا المصطلح عبر كبار السياسيين في العالم، وأبرزهم الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان الذي قال أمام مجلس العموم في 8 حزيران 1982 إنّ “الحرّية والديمقراطية سيخلّفان الماركسية واللينينية في مزبلة التاريخ”. أمّا أبرز السياسيين العرب الذين استعملوا هذه العبارة فكان الرئيس الليبي الراحل معمّر القذافي في شهر آذار 2011 موجّهاً حديثه للدول التي هاجمت ليبيا عندما فُرض حظر الطيران عليها قائلاً: “إنّه عدوان… من قبل مجموعة من الفاشيين، سينتهي بهم الأمر في مزبلة التاريخ”. ثمّ استعملها وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف مخاطباً رئيس حكومة العدوّ الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في 4 حزيران 2021 بعد خسارته للانتخابات الإسرائيلية قائلاً: “نتانياهو يذهب إلى مزبلة التاريخ مثل ترامب وبولتون وبومبيو”.
“مزبلة التاريخ” عبارة تتردّد كثيراً على ألسنة السياسيين، وكثيراً جدّاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي حيث يستعملها الناس في مجملهم للتعبير عن نهاية شخص أو حدث أو أيديولوجية
لبنانيّاً أبرز من استعملها الفنّان راغب علامة، في حديث مع قناة “سكاي نيوز العربية” في 14 تموز 2022، على هامش حفلة فنّية له في قبرص لمناسبة عيد الأضحى، منتقداً قيادات سياسية لبنانية: “هذا بلدنا (لبنان)، وبالتأكيد سيعود، وقياداته السياسية ستذهب إلى مزبلة التاريخ”. وكان استعمال النائب العوني جورج عطا الله لهذا المصطلح في تغريدة له في 27 أيار 2021 منتقداً القضاء والقضاة، سبباً لأزمة قضائية بين التيار الوطني الحر والجسم القضائي ممثّلاً بالمدّعي العام التمييزي غسان عويدات.
لماذا الحديث الآن عن مزبلة التاريخ، تلك التي لا نعرف مكانها ولا شكلها ولا تفاصيلها التكوينيّة، لكنّنا نعلم جيّداً أنّ فيها الكثير الكثير من السياسيين، والعسكريين والطغاة والمستبدّين والفاسدين واللصوص والمرتكبين، وفيها الكثير من الأيديولوجيات البائدة والأفكار المتطرّفة والآراء الحاقدة؟ الحديث عن تلك المزبلة حقّ طبيعي لنا نحن اللبنانيين فيما نعيش في جهنّم التي بشّرنا بها رئيس البلاد وكلّ السياسيين.
من حقّنا أن نتساءل: مَنْ مِن كلّ هؤلاء سيذهب إلى تلك المزبلة، بخاصّة أنّ هناك مقولة يفتخر بها السياسيون اللبنانيون ومفادها أن لا نهاية لأحد من السياسيين في لبنان، وحتى مَن هم تحت التراب ما زالوا ناشطين؟
من حقّنا أن نعرف ماذا سنجني نحن الشعب إن ذهب كلّ الساسة إلى مزبلة التاريخ ما دامت يوميّاتنا مزبلة، وأحلامنا لا تفارق المزبلة، وأفكارنا تشبه نفايات المزبلة؟
أجمل ما سمعت في هذه المناسبة ما قاله لي صديقي الشاعر السعودي الكبير طلال حمزة في جلسة عام 2004 بمقهى النخيل على كورنيش مدينة جدّة عروس البحر الأحمر: “أكثر الأمكنة ازدحاماً في العالم هي مزبلة التاريخ”.
* ليون تروتسكي: اسمه الحقيقي ليف دافيدوفيتش برونشتاين. هو ماركسيّ بارز، وأحد زعماء ثورة أكتوبر (تشرين الأول) في روسيا عام 1917، والحركة الشيوعية العالمية في النصف الأوّل من القرن الماضي، ومؤسّس المذهب التروتسكي الشيوعي بصفته أحد الفصائل الشيوعية الذي يدعو إلى الثورة العالمية الدائمة. بعد الثورة تسلّم مفوضية الحرب. هو أيضاً مؤسّس الجيش الأحمر، وعضو المكتب السياسي في الحزب البلشفي إبّان حكم لينين، وكان له الأثر الفعّال في القضاء على أعداء الثورة. عيّنه لينين مفوّض العلاقات الخارجية عندما أسّس حكومته البلشفية الأولى عام 1917، إذ اعتبره أفضل العقول في الحزب الشيوعي.
إقرأ أيضاً: اللبنانيّون يودّعون جهنّم
* المناشفة: كلمة روسية تعني “الأقليّة”. والمناشفة هم جماعة سياسية تكوّنت عام 1903 بعد انقسام حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي إثر خلافات داخلية إلى شقّين: البلاشفة بقيادة فلاديمير لينين وكانوا يسعون إلى الحلّ الثوري واستخدام السلاح لحلّ المعضلات السياسية، وأقليّة سُمّيت لاحقاً المناشفة انضوت تحت قيادة يوليوس مارتوف وانتهجت الطريق السلمي في حلّ المشكلات السياسية التي كانت رائجة حينها.