ينشر “أساس” حلقة ثالثة وأخيرة من رواية سمير عطاالله اللافتة “ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس”.
أيقظتني صوفيا على الجسد، فمنذ سنوات وأنا أعيش خارجه، أتطلع إليه بغير اهتمام وكأنني أمضي عقوبة في إقامة جبرية، وتمر الأشياء ولا أهتم بها، وتعبر المشاعر وأدوّنها، حتى تلك الرغبة في الكتابة لم تعد في الوجود. ساعات طويلة على شاطئ ليبرداد، لا أودع أحداً ولا أستقبل أحداً، والموج يأتي ويذهب، ولا يحمل إليّ شيئاً، حتى الحنين إلى أي شيء، ثم، فجأة، ليلة رأس السنة في دوس سانتوس، وحديقة ميموزا، وتلك الحورية الصغيرة تلقي عليّ ما كنت قد نسيت من شعري: “أعيدي إليّ حبيبتي يا مرافئ البرتغال”.
أعطتني لارا أندريا يا أجمل أمسية عرفتها في حياتي؛ أمسية واحدة تكفيك، فاذهب وتدبر أمرك. ذكرتني بالجمال، وكيف يكون الجمال عبادة، وبثت من جديد جميع الرغبات، وحملتني في ذاكرتي صورة ابتسامة تتمدد فوق كل شيء، صاحياً كان أم نائماً، في عتم الليل أو ضوء النهار. أعطتني، حتى نسيت تماماً منطق الأعمار وشروط الحب وحدود الجنون، رسمت في ساعات مفهوم المرأة وشكلها النهائي وتايورها الزهري الفاتح.
لكن، ها هي الحقيقة تدفعني نحو حافة أخرى، موجة خلف موجة، كنت ممتلئاً بفيض لارا أندريا، أما الآن فقد عاودني الشعور بالحاجة إلى نداءات الجسد، إلى النبض الذي يعلو ويهبط ويضخ في الجسد خدراً غامضاً ولذيذاً.
كان رفيق ومؤنسي فرناندو بيسوا يقول: “المشاعر التي تؤذي في العمق، والعواطف التي تلسع أكثر من سواها، هي الأكثر عبثية
صارت صوفيا تتمشى في المنزل بحرية أكثر، بل بسلطة أكثر، وأشدّد على تصرفها بحرية أكثر، وتماشت مع الربيع بما خبا وما ظهر، غير أنني أوحيت إليها بطريقة ما، أن أجمل لباس في غرفة النوم هو القميص القطني، عودة الى جبال المراهقة ووهادها.
لا شك في أن صوفيا تعيش هي أيضاً لحظات مماثلة، فهي أيضاً لم تحيَ مراهقتها، إذ كُتِب عليها أن تكون مومسّا في سن الحب الأول، وأن تعاشر العاجزين في عمر الفشل واللذة وصراخ الأجساد المتلاصقة؛ احترام متبادل بل حب، وعطف حارٌ، لكن، لا شعلةً ولا لهيباً.
والآن، وأخيراً، تبدأ ملامح حياة متوازية، التقاء الأجساد في زمن المصالح لا في زمن الحب، والبحث عن السعادة في كروم استوت أعنابها إلا قليلا، كل شيء في نهاياته إلا الرغبة بحياة عادية، فهي في بداياتها، شهر عسل يتأخر 50 سنة.
***
كان العالم يدور ويتغير، وخصوصاً عالمنا في البرتغال، إذ تأخرت لشبونة في اللحاق بالعصر، وقد أخّرها الغرور الاستعماري والفكر الديكتاتوري الخائف من كل شيء، وكان أنطونيو سالازار على حق في ارتعابه من أن فتح النوافذ الصغيرة سيؤدي إلى فتح الأبواب، ومتى فُتحت الأبواب صار كل شيء في مهبّ الريح، وها هي الريح تهبّ في كل مكان، وكل شيء يتغير، وبرتغال شابة تطل.
وعندما تطل لارا أندريا دي ريبيرو في نشرة الثامنة تأخذ بأنفاس الجميع، ومن دون أن ينتبه أحد إلى الأحداث نفسها، صارت نشرة الأخبار عرضاً هي نجمته، وألوانها ألوانه، وعندما تطل ببلوزة باللون الأخضر الداكن تنسدل من عينيها السوداوين مسحة جمال هادئة وطفولية. (…)
وأنت، أجل أنت، معلم المدرسة المتقاعد، أنت، المتقاعد باهت الوجه، الرجل العادي الذي تمتلئ بمثلك مدن العالم وقراه وساحاتها، تريد أن تبقى في ذاكرتها؟ أتريد أن تقف على باب عالمها؟ أن تستجدي جملة “تصبح على خير” لك وحدك؟ أيها البائس المتعب بنفسك، عندما تردد هي هذه الجملة تكون لجميع البرتغاليين، ومن أجل جميع الليالي والأيام، وإذا لم يكن لديك مرآة، فاخرج إلى شرفتك، وتمرّى على سطح الأطلسي، وأحسب ما مرّ بك من أمواجه. لن يتوقف هذا الكوكب من أجلك حتى لو طاف المحيط بدموعك، هذا يا غبي، كوكب سيّار، مثل فينوس، يضيء لجميع العشاق، لكنه لا يشعر بوجودهم. (…)
من شرفتي المنعزلة أطل على هذه البلدة الساحرة فأرى البرتغال، وأرى بيوتها القرميدية المتدرجة مثل سلم قديم نحو البحر، وأسمح من شرفاتها الثرثرة والغناء ورنين الكؤوس؛ البرتغالي يعتبر أن النبيذ من دون صخب، خلّ بائت وحسب، لكنني أسمع أيضاً صوت غربتي، غريب الديار. (…)
تبدأ ملامح حياة متوازية، التقاء الأجساد في زمن المصالح لا في زمن الحب، والبحث عن السعادة في كروم استوت أعنابها إلا قليلا، كل شيء في نهاياته إلا الرغبة بحياة عادية
كل الأشياء تتغير هنا، وكما عاش بيسوا وحيداً في حياته يعيش وحيداً في موته، تمثال برونزي متواضع، مثله، بقبعته التي عاد بها من جنوب أفريقيا إلى لشبونة، ويأتي الناس إلى المقهى الذي أمضى فيه حياة التأمل ويذهبون ويتركونه وحيداً لأسمائه المستعارة وعذابه. وحدهم السياح يلتقطون معه الصور استكمالاً للجولة التذكارية في المدينة، مع الترام والأزقة وربات البيوت اللواتي يحاولن كسر رتابة حياتهن في المقاهي والخيانات السريعة.
كادت لارا أندريا تصبح الرمز الجديد للبرتغال، فحضرت في كل بيت مثل ظل مؤنس، وعندما غابت أماليا رودريغز وتنافس بطاركة التلفزيون حول من يغطي الجنازة الوطنية، تراجع الجميع في انهزام أمام خيار لارا أندريا، إنها وجه البرتغال الجديد الذي يودع “روح البرتغال” الماضية، ووقفت هذه الآلهة الصغيرة مثل قائد أوركسترا بين عشرات الآلاف من المودعين. لا أحد يستطيع أن يرد أماليا من عالم قلبها الضعيف الذي خذلها مراراً، لكن ها هي لارا أندريا هنا، شجاعة مثل فرقة الفرسان الملكية، تقول للناس إن أماليا لن تتكرر، لكن أغاني الفادو باقية، ولو أقل حزناً وصداحاً. في نقل أخبار الموكب الجنائزي في كاتدرائية استرالا تعلن: “لن تعثر البرتغال على مثل هذه الصناجات بعد اليوم”.
لم يعنِ لي الكثير يومها، لا غروب أماليا ولا هذا الإشراق، إذ كنت قد اخترت العزلة، والعزلة لا تحتمل المفاجآت. وما علاقتي بالأمر، وأنا أقرب إلى الغروب مني إلى الفجر؟ هكذا بينما كانت البرتغال تنتظر كل يوم بهجة الساعة الثامنة، كنت أمضي الوقت في قراءة كتبي القديمة؛ غبار.
لا تأتي اليقظة مرة واحدة؛ تتثاءب بك الحياة وتمهلك وتنتظر ريثما تفيق، وببطء أيقنت أن ثمة نهاية واحدة لهذه القصة التي لم تكن، عود ثقاب أشعلته في لحظة خيال وانتهى الأمر. كلٌ يذهب في طريقه: الفتاة إلى دنيا النجوم، وأنت إلى البيت المنعزل على البحر، هي تعدُّ معجبيها وأنت تعد سنواتك، لا تعطِ المسألة أكثر مما هي، ولا تعد إلى كتابة القصائد. لقد كبر الأطفال الذين كنت تكتب لهم وعادت مرافئ البرتغال إلى مرافئها، وعبثاً تناجي: “يا مرافئ البرتغال أعيدي إليّ حبيبتي”، فليس لك حبيبة من أجل أن تعود.
إقرأ أيضاً: الحياة بحّار مشتاق ومومس للإيجار(2)
كان رفيق ومؤنسي فرناندو بيسوا يقول: “المشاعر التي تؤذي في العمق، والعواطف التي تلسع أكثر من سواها، هي الأكثر عبثية. أن تهفو إلى الأشياء المستحيلة: الحنين إلى الأشياء التي لم تكن أبداً، والرغبة في ما كان ممكناً أن يكون، والتأسف على أنك لست إنساناً آخر، والتبرم بالوجود، فكل هذه تجعلنا على الدوام، أمام مشهد من الغروب الكئيب”.