ليس مستغرباً ما جاء على لسان السفير الإيراني مجتبى أماني من على منبر دار الفتوى في بيروت. لقد عبّر الرجل بدقّة عن رؤية دولته للبنان.
لم تتعامل إيران الخميني يوماً مع لبنان على أنّه دولة ذات سيادة واستقلال. لم تحترم الدستور ولا القوانين المرعيّة الإجراء، وما ساعدت الدولة اللبنانية ومؤسّساتها بشيء، فكلّ مساعداتها وخيراتها صبّت دائماً لصالح فريق لبناني من لون طائفي واحد من دون لبس أو زواغ. لم تقُم إيران ببناء منشأة عامّة واحدة تعود فائدتها على كلّ اللبنانيين بأطيافهم وطوائفهم المتعدّدة، ولم تساهم في أيّ مشروع تشرف عليه الحكومة اللبنانية، موالية لها أم غير موالية.
لم يكن السُنّة يوماً طائفة ولن يكونوا، وما كان السُنّة يوماً مذهباً ولن يكونوا. هم الأمّة، وإن كان لا بدّ من تغيير لقب مفتي الجمهورية اللبنانية لوجب علينا أن نُطلق عليه لقب مفتي الأمّة
بعد العدوان الإسرائيلي عام 2006، إن استثنينا مساهمة إيران في إمداد حزب الله بالسلاح والعتاد وإعادة إعمار منشآت الحزب العسكرية التي دُمّرت، لم تقُم الدولة الفارسية بأيّ مساهمة في إعادة إعمار ما تهدّم في العدوان الإسرائيلي الغاشم من قرى وبلدات وجسور ومنشآت مدنية، فيما العرب وأوّلهم المملكة السعودية قاموا بالإعمار والترميم في مناطق سكّانها ذوو أغلبيّة شيعيّة، من الجنوب وصولاً إلى الضاحية الجنوبية لبيروت. جلّ ما قامت به للعامّة لإبراء الذمّة التبرّع ببرميلين من “البويا” الصفراء والخضراء لطلاء وسطيّة الشارع في منطقة الأوزاعي، ولمّا كانت رديئةً نوعيّة الطلاء موضوع الهبة الإيرانيّة، فقد تفتّت الدهان وتساقط وبهتت ألوانه بعد ما لا يزيد على أسبوعين من استعماله.
بالعودة إلى كلام المجتبى صاحب الأماني، لا ينقص ولا يضرّ سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية عبد اللطيف دريان، ومقام الإفتاء في لبنان كلام سفير من السفراء حاول من سبقه، وسيحاول من سيخلفه، استهداف مقامٍ رفيع المستوى والقيمة كمقام دار الإفتاء.
موقع الإفتاء ولقب مفتي الجمهورية اللبنانية ليسا منحة من أحد للطائفة السنّيّة، أو لبيروت ومفتيها. هو لقب ارتبط بمسألة قيام دولة لبنان المستقلّة الحرّة. كان أوّل من حمله الراحل الكبير المفتي محمد توفيق خالد بالمرسوم رقم 291، بتاريخ 9 تموز 1930 بعدما سبق للراحل الكبير المفتي الشيخ مصطفى نجا أن رفضه عندما عرضه عليه المفوّض الفرنسي غورو عام 1920، وكانت جملته الشهيرة المكتوبة بماء من الذهب حين قال لغورو حاكم لبنان في حينه: “إنّني عُيّنت مفتياً لبيروت المحروسة بفرمان من خليفة المسلمين، ولن أستغني عن هذا الفرمان أو أستبدله بقرار فرنسي مهما كانت قيمة هذا القرار”. ثمّ اجتمعت الأطياف اللبنانية بعد الاستقلال على ضرورة منح هذا اللقب لمفتي بيروت الكبير لأنّه رمز لبنان المستقلّ، ورمز الدولة التي جاهد من أجل قيامها الكثيرون.
ليس مستغرباً ما جاء على لسان السفير الإيراني مجتبى أماني من على منبر دار الفتوى في بيروت. لقد عبّر الرجل بدقّة عن رؤية دولته للبنان
ما صنعت الألقاب رجالاً فيما الرجال أعطت للألقاب قيمة، فلا يكفي السفير مجتبى أماني أن تعيّنه بلاده ليكتب التاريخ السياسي أنّه سفير له إنجازات، كُثير هم السفراء من كلّ اللغات والجنسيّات الذين جاؤوا ورحلوا في عالم الدبلوماسية، ثمّ خرجوا من دون أيّ بصمة من البصمات، أو كما يقول المثل العاميّ اللبناني “تيتي تيتي متل ما رحتي متل ما جيتي”.
لقب مفتي الجمهورية اللبنانية منحه اللبنانيون لمفتي بيروت، وما يقرّره اللبنانيون لا يمكن للإيرانيّين أن ينزعوه. انتزاع هذا اللقب هو انتزاع لكينونة هذا الكيان والدولة، وإعلان صريح عن نهاية لبنان الكبير. الإيرانيون قادرون على احتلال بيروت وبغداد وصنعاء ودمشق، لكنّهم عاجزون عن تغيير هويّة هذه العواصم.
لم يكن السُنّة يوماً طائفة ولن يكونوا، وما كان السُنّة يوماً مذهباً ولن يكونوا. هم الأمّة، وإن كان لا بدّ من تغيير لقب مفتي الجمهورية اللبنانية لوجب علينا أن نُطلق عليه لقب مفتي الأمّة.
إقرأ أيضاً: رسالة إلى صاحب السماحة مفتي الجمهورية اللبنانية
مجتبى أماني كلّ أمانيك غير مستجابة. إسأل المحتلّين من قبلك، فشواطئ مدينتنا يحرسها إمامٌ اسمه الأوزاعي، وعلى ضفاف نهر بيروت تُقرع أجراس الكنائس متناغمة مع تكبيرات المساجد في صلاة العيد. مفتيها لم يكن يوماً لطائفة بل كان مفتياً لجميع المؤمنين.