جاء في مقال الزميل الدكتور محيي الدين الشحيمي في موقع “أساس” “طالبان “تهدي” بايدن جثّة الظواهري”، بعض الاستدلالات والاستنتاجات التي ينبغي الوقوف عندها، بشأن مَن هو وراء إرشاد الأميركيين إلى موقع زعيم تنظيم القاعدة سابقاً أيمن الظواهري، في قلب كابول، مستثنياً في مقاله أيّ احتمالات أخرى، كما هو مفترض في أيّ قضية استخبارية وأمنيّة غامضة، ومن دون تقديم قرائن جادّة في ما ذهب إليه.
لقد اكتفى بالقول إنّه “بات واضحاً أنّ قادة طالبان، الذين قتلت أميركا الظواهري داخل أرقى أحياء عاصمتهم كابول، باتوا يعتبرون “القاعدة” وزعماءها عبئاً عليهم ومنافسين لهم في سيطرتهم على أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي منها. وهم يتخوّفون من بعض قياديّيها لناحية تخريب اتفاق السلام الذي أُبرم في قطر وتحت رعايتها مع الولايات المتحدة الأميركية. ويخشون من إعاقة القبول المبدئي الدولي بهم. أضف أنّ التصفية داخل مناطق نفوذهم مخالفة لنصّ اتفاق الدوحة الذي ينصّ على إلزامية التنسيق قبل أيّ عملية أميركية داخل أفغانستان… لذا فالأرجح أنّ العملية كانت منسّقة مع قيادة طالبان”.
وبتشريح هذا النسق الاستدلالي على تنسيق طالبان مع إدارة بايدن، يتبيّن أنّه يحتوي على مقدّمات اعتبرها الزميل الشحيمي وكأنّها مسلّمات وصولاً إلى ترجيحه بأنّ طالبان هي مَن باعت الظواهري على أن يكون الثمن هو رفع سيف العقوبات عن حكومة طالبان، وتحريك الأرصدة الأفغانية المجمّدة في بنوك الولايات المتحدة (قرابة عشرة مليارات)، وتقريب الطريق نحو الاعتراف بـ”الحركة” وحكمها في أفغانستان.
التقديرات الاستخبارية والأممية تتحدّث عن وجود مئات عدّة من مسلّحي “القاعدة” في أفغانستان، مقابل عشرات الآلاف من مقاتلي طالبان، المزوّدين بالأسلحة الحديثة التي غنموها من الجيش الأفغاني السابق
أولاً، يقول إنّ طالبان باتت تعتبر “القاعدة” وقادتها عبئاً ثقيلاً عليها، في أمرين هما: منافسة “الحركة” في السيطرة على أفغانستان، وإعاقة مسار الاعتراف الدولي بحكم طالبان وتخريب اتفاق الدوحة. والأمران لا يتوافر فيهما أيّ مصداق عمليّ.
تقارير الأمم المتحدة
فقد ورد في التقرير الثامن والعشرين الموجّه إلى مجلس الأمن بتاريخ 15 تموز 2021 من لجنة مراقبة تنفيذ العقوبات على داعش و”القاعدة” وفقاً للقرارين 1526/2004، و2253/2015 وغيرهما من القرارات، أنّ تنظيم القاعدة يعاني من استنزاف حادّ في مجال القيادة، وهو ممّا يدعو إلى التشكّك في قدرة “التنظيم” على إدارة انتقال القيادة من الظواهري إلى سواه. في ذلك الوقت كان أُشيع موت الظواهري لأسباب طبيعية، لكنّ تقييم الوضع من طرف الأمم المتحدة أنّه ما زال على قيد الحياة، لكنّه مريض. أمّا الفيديو الذي ظهر فيه الظواهري في آذار 2021، وهو يهدّد فيه سلطات ميانمار، فمحاولة من “التنظيم” لنفي شائعات تراجع نفوذ الظواهري أو وفاته. ورأى التقرير أنّ خليفته المحتمل هو محمد صلاح الدين عبد الحليم زيدان المعروف بـ (سيف العدل)، الموجود حالياً في جمهورية إيران الإسلامية. وأضاف أنّ حسابات خلافة قيادة “القاعدة” معقّدة بسبب عملية السلام في أفغانستان حيث إنّ طالبان بموجب اتفاقية إحلال السلام في أفغانستان مع الولايات المتحدة الأميركية في شباط 2020، تلتزم بقمع أيّ تهديد إرهابي دولي.
أمّا في التقرير الثلاثين المقدّم من اللجنة نفسها إلى مجلس الأمن، فقد جاء فيه أنّ القيادة العليا للقاعدة مرّت بمرحلة أكثر استقراراً في أوائل عام 2022. وأصدر الظواهري رسائل فيديو منتظمة، وهو ما وفّر دلائل إضافية على حياته. ولاحظ التقرير الأمميّ أنّ الراحة التي يشعر بها الظواهري وقدرته على التواصل، تزامناً مع سيطرة طالبان على أفغانستان ورسوخ قوّة حلفاء “القاعدة” داخل إدارة الأمر الواقع في أفغانستان (شبكة حقّاني خاصّة). مع ذلك قال التقرير إنّه لا يُنظر حالياً إلى تنظيم القاعدة على أنّه تهديد دولي مباشر من ملاذه الآمن في أفغانستان لأنّه يفتقر إلى القدرة على تنفيذ العمليات الخارجية، كما أنّه لا يرغب حالياً في التسبّب في أيّ معضلة دولية لطالبان أو أيّ إحراج لها.
هل “القاعدة” ناشطة؟
وبما أنّ التقديرات الاستخبارية والأممية تتحدّث عن وجود مئات عدّة من مسلّحي “القاعدة” في أفغانستان، مقابل عشرات الآلاف من مقاتلي طالبان، المزوّدين بالأسلحة الحديثة التي غنموها من الجيش الأفغاني السابق، فأيّ تهديد يمكن أن يمثّله “التنظيم” لحكم طالبان، وأيّ منافسة لها؟
الخبير الأميركي في شؤون الإرهاب دانيال بايمان Daniel Byman، وفي سياق الجدل حول القوة الحالية للقاعدة، يقول إنّ مشكلات “القاعدة” تتمثّل حالياً بضعفها التنظيمي في مجالات عدّة، بما في ذلك المشكلة الماليّة، والاضطرابات القيادية، ومحدودية التحكّم والسيطرة، ولا سيّما على فروعها الإقليمية التي لها اهتمامات محلّية، والصراع الداخلي بين اتّجاهاتها، وعدم وجود ملاذ جغرافي. ورأى أن لا مقارنة بين وضع “التنظيم” في أفغانستان قبل 11 أيلول 2001 عندما كان يدرّب الآلاف في معسكراته، وبين وضعه اليوم في أفغانستان حيث لا مصلحة لطالبان ولا لباكستان في استئناف “التنظيم” نشاطه كما كان من قبل. كما أنّ وضع “التنظيم” في إيران ليس مريحاً، فقادته في ما يشبه إقامة جبرية في دولة عدوّة كما جاء في وثائق بن لادن المصادَرة من سكناه في أبوت أباد في باكستان عقب قتله عام 2011.
ثانياً، جاء في شهادة قائد المنطقة المركزية في الجيش الأميركي كينيث ماكنزي Kenneth Mckenzie أمام لجنة القوات المسلّحة في الكونغرس في 15 آذار 2022، أنّ تنظيم الدولة الإسلامية (ولاية خراسان) هو الذي يشكّل الخطر على حكم طالبان، وهو يراوح بين أن يكون خطراً متوسّطاً إلى خطر مرتفع. ويمكن أن يتصاعد هذا التهديد في الأشهر والسنوات المقبلة، في مثل الظروف التي تمرّ فيها أفغانستان، أي تدهور الوضع الاقتصادي، وتعمّق الأزمة الإنسانية، وتراجع الأمن الغذائي. ومع انسحاب الجيش الأميركي تبدو فرصة داعش أكبر في زيادة قوّته في معاقله التاريخية شرق أفغانستان، وتوسيع عمليّاته ضدّ طالبان، ومهاجمة الدول المجاورة. ويمكن أن يشكّل داعش خطراً على الولايات المتحدة وحلفائها في غضون 12 إلى 18 شهراً. وربّما يكون الخطر أقرب من ذلك إذا حقّقت هذه الجماعة مكاسب غير متوقّعة في أفغانستان.
أمّا بالنسبة إلى “القاعدة”، فمن المرجّح أن يحافظ “التنظيم” على المدى القريب على مستوى منخفض من الظهور تحت ضغط من حركة طالبان التي تسعى إلى حيازة الشرعية الدولية. وبالنظر إلى علاقات “القاعدة” الطويلة الأمد مع طالبان وشبكة حقّاني، فإنّ القيادة المركزية الأميركية تقدّر أنّ بعض عناصر “القاعدة” لديهم حرية محدودة في الحركة في أفغانستان. ومن المحتمل أن تكون “القاعدة” تطمح إلى تجنيد الأفراد وتدريبهم. وإذا نجحت في ذلك، فإنّها ستستعيد القدرة على تنفيذ هجوم خارجي على الولايات المتحدة وحلفائها في غضون 12 إلى 24 شهراً.
التقرير الأممي الصادر قبل أشهر أشار إلى نشاط الظواهري بالرسائل المتلفزة، وكأنّه هو الذي كان ينتهك ذاك التفاهم غير المعلن
القاعدة حليف طالبان
خلاصة تلك التقارير أنّ “القاعدة” لا تشكّل أيّ خطر على طالبان نفسها، ولا هي عبء عليها مع التحكّم بحركتها داخل أفغانستان، بل قد تكون حليفاً وثيقاً ضدّ عدوّ مشترك للجميع هو داعش.
ثالثاً، هل تستطيع طالبان تسليم جثّة الظواهري إلى إدارة بايدن، بحسب تعبير الزميل الشحيمي، وما هو الثمن؟
قالت التقارير إنّ الظواهري كان يسكن في منزل مهجور بحيّ كان يقطنه أصحاب النفوذ ورجال الحرب في السنوات الماضية. ويعود المنزل حالياً لنائب أمير طالبان ووزير الداخلية سراج الدين حقّاني المصنّف هو وبعض أفراد عائلته إرهابيّين، وثمّة جائزة أميركية لِمَن يرشد إلى مكانه بقيمة 10 ملايين دولار. سراج الدين حقاني هو ابن القائد الأفغاني المعروف أيّام الجهاد ضدّ السوفيات جلال الدين حقّاني (توفّي عام 2018) الذي تولّى منصب وزير القبائل والحدود عند تأسيس إمارة طالبان منتصف التسعينيّات من القرن الماضي. ومقاتلو هذه الجماعة بالآلاف، وهم متميّزون بشراستهم في القتال، وتحالفهم لصيق بـ”القاعدة”، ومعقلهم في الشرق وصولاً إلى المقلب الآخر من الحدود مع باكستان. فلو أنّ طالبان هي التي وشت بالظواهري، فإمّا أن تشي به شبكة حقّاني نفسها، وهو أمر غير معقول، لأنّ الشبكة مصنّفة هي كذلك بالإرهاب. وإمّا أن تشي به قيادات طالبانية أخرى، وعندها لاندلعت حرب أهليّة بين فصائل طالبان. فلا الأوّل ممكن، ولا الثاني وقع حتى الآن. بل إنّ البيان الصادر عن “الحركة” عقب الحادثة تضمّن أمرين: الأوّل أنّ “الحركة” لم تكن تعلم بحضور الظواهري في كابول، وهو أمر ممكن. والثاني يؤكّد ضمناً أنّ الظواهري حتى لو كان موجوداً من دون علم “الحركة”، فلم يصدر منه خطر يهدّد الولايات المتحدة أو حلفاءها.
إقرأ أيضاً: طالبان “تهدي” بايدن جثة الظواهري
ولو راقبنا التصريحات الأميركية الرسمية، فسنلاحظ الاتفاق على مسألتين: هل كانت طالبان تعلم بوجود الظواهري؟ وهل هي ملتزمة تطبيق اتفاق الدوحة لجهة منع عودة أفغانستان قاعدة انطلاق الإرهاب؟ هذا ما جاء على لسان مستشار الأمن القومي جيك سوليفان Jake Sullivan، وكذلك ما صرّح به وزير الخارجية أنتوني بلينكن Antony Blinken. فكيف تستفيد طالبان من اختراق اتفاق الدوحة وهي التي تسعى إلى الاعتراف الدولي؟ فإمّا أنّ “الحركة” اتّفقت مع شبكة حقّاني على استدراج الظواهري وقتله في صفقة سرّيّة مع واشنطن، وهذه غير قابلة للتنفيذ. وإمّا أنّ إدارة بايدن هي التي انتهكت اتفاقاً سرّيّاً مع طالبان، يقضي بأن تحتوي “الحركة” بقايا “القاعدة”، فينهي الظواهري حياته متقاعداً في فيلا بكابول؟ وهذا الاحتمال أقرب، بدليل أنّ التقرير الأممي الصادر قبل أشهر أشار إلى نشاط الظواهري بالرسائل المتلفزة، وكأنّه هو الذي كان ينتهك ذاك التفاهم غير المعلن. أمّا أن “تغدر” طالبان بالظواهري أو غيره، فلم تفعله عام 2001، عندما رفض الزعيم التاريخي للحركة الملّا محمد عمر تسليم بن لادن، فخسر السلطة، وعاش طريداً شريداً إلى أن توفّي بصورة غامضة عام 2013.