قدّمت حركة طالبان “جثّة” زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري، هديّة أو قرباناً للرئيس الأميركي جو بايدن، قبيل الانتخابات النيابية النصفية التي يبدوفيها حزبه “ضعيفاً” قبل شهرين من إجرائها.
فقد بات واضحاً أنّ قادة طالبان، الذين قتلت أميركا الظواهري داخل أرقى أحياء عاصمتهم كابول، باتوا يعتبرون القاعدة وزعماءها عبئاً عليهم ومنافسين لهم في سيطرتهم على أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي منها. وهم يتخوّفون من بعض قياديّيها لناحية تخريب اتفاق السلام الذي أبرم في قطر وتحت رعايتها مع الولايات المتحدة الأميركية. ويخشون من إعاقة القبول المبدئي الدولي بهم. أضف أنّ التصفية داخل مناطق نفوذهم مخالفة لنصّ اتفاق الدوحة الذي ينصّ على إلزامية التنسيق قبل أيّ عملية أميركية داخل أفغانستان… لذا فالأرجح أنّ العملية كانت منسّقة مع قيادة طالبان.
قُتل الظواهري ليحمي بايدن ولايته الرئاسية ولإيصال رسالة تؤكّد تفوّق أميركا وبقائها متربّعة على قمّة العالم، سياسياً وعسكرياً واستخباراتياً
فهل هناك اتفاقية سرّية ضمن صفقة لتفعيل حظوظ الحركة في الحصول على قبول دولي في المرحلة المقبلة ولتحرير الأموال الأفغانية المجمّدة في المصارف العالمية؟
ليس خفياً أنّ الظواهري كان يفتقر إلى الكاريزما القيادية، وهو الزعيم المتقاعد لحركة إرهابية “مع وقف التنفيذ”، بسبب تراجع حضورها وعملياتها حول العالم. ويُقال إنّه غير محبوب أصلاً ضمن المجتمع القاعدي وبين قياداته وزعمائه.
الأيام المقبلة ستظهر إذا كانت هذه “الهدية” سترفع أسهم بايدن بين الناخبين الأميركيين، وإذا ما كانت هذه الضربة ستضعف “القاعدة” بالقدر الذي أضعفها اغتيال أسامة بن لادن. لكنّ الأكيد أنّ “القاعدة” بزعامة بن لادن لا تشبه القاعدة بزعامة الظواهري. لذلك فالأرجح أنّ النتائج على مستوى الداخل الأميركي لن يكون مردودها بنفس القيمة.
قتل بن لادن مثّل قمّة الانتقام الأميركي من أحداث 11 أيلول 2001، فيما لا يحمل اسم الظواهري الصدى الكافي ليتردّد في آذان الأميركيين باعتبارها فجّر برجيهم في نيويورك.
أفغانستان والعرب
إذا راجعنا عهود الرؤساء الأميركييم، فقد صُنع وكُرّس لكل إدارة سياسية وفترة رئاسية قربان جاهز للتقديم غبّ الطلب وعند الحاجة، في حال نخر السوس الإدارة والأعمال اليومية، ولتعويض أيّ تراجع وتأخّر في شعبية الرئيس، ولتفادي أيّ خسارة في الاستحقاقات. والظواهري كان قربان بايدن كما كان بن لادن قربان باراك أوباما وقاسم سليماني قربان دونالد ترامب.
تجهل الإدارة الأميركية في حقيقة الأمر إلى الآن الحدود الاستثمارية لهذه العملية، وحتى أكثر من ذلك، فهي عاجزة عن كيفية الصرف العملي للاستفادة منها بشكل مباشر. فهل تُعتبر انتصاراً لبايدن وإنقاذاً له من قطوع الانتخابات النصفية؟ وهل تعبّد طريق الولاية البايدنيّة الثانية؟
قُتل الظواهري ليحمي بايدن ولايته الرئاسية ولإيصال رسالة تؤكّد تفوّق أميركا وبقائها متربّعة على قمّة العالم، سياسياً وعسكرياً واستخباراتياً، وفي كلّ مناطق نفوذها، خصوصاً بعد الانسحاب الجزئي من المنطقة، خصوصاً من أفغانستان.
قد تكون العملية رسالة أيضاً إلى المنطقة العربية، بأنّ أميركا لا تنسى عدوّاً، ولا تُخلف بوعودها اتّجاه نفسها أوّلاً وشعبها ومجتمعها واتجاه حلفائها كذلك. وهو “سيندروم” التفوّق الأميركي للمحافظة على القمّة، والمتلازمة الأميركية في الحروب والقضاء على الإرهاب وسيطرتها على الأحداث العالمية، في مرحلة حرجة جدّاً ومتعدّدة الملفات.
تأتي العملية بعد سلسلة خسائر منيت بها إدرة بايدن، بدءاً من الحرب الأوكرانية الروسية ومعضلة الطاقة ومشاكل التضخّم العالمية التي انعكست على المواطن الأميركي، ناهيك عن الصراع مع الصين والتوتر في تايوان، وصولاً إلى الاهتزاز في عمق العلاقة مع الحلفاء العرب في الخليج. وكلّها خسائر استراتيجية وليس تكتيكية.
من النتائج المحتملة أن تتعرّض أميركا لموجات إرهابية جديدة. فهي تعرف أنّها تواجه إرهاباً ينتج قيادية بديلة وبنفس مختلف عن الجيل المؤسّس، وأنّ تنظيم القاعدة تحوّل إلى نموذج “لامركزية النشاط والمرجعيّات التنفيذية”، التي تنهك أجهزة الإستخبارات وتستنزف أميركا.
تنظيم الخلايا المتباعدة
في المقابل لا تزيد الآثار الإيجابية لمقتل الظواهري عن كونها معنوية، وهي ليست سوى مرحلية محدودة وقصيرة المدى، تطغى عليها نرجسية التفوّق والانتصار، وهي مختلفة كلّيّاً بطبيعتها ومضمونها عن مرحلة التخلّص من بن لادن. فسقوط الرقم اثنين في القاعدة، وهو حدث جيّد، لا يعني سقوطها. بل هو قتل لاسم الظواهري فقط وحجبه من الوجود ليس أكثر. فالذي انتهى هو العنوان فيما التفصيل باقٍ وموجود، وهو الأخطر. فبنية تنظيم “القاعدة” ليست عامودية ولا أفقية، ولا امتداد ديمغرافي لها أو شعبي لها ليصير قتل الزعيم مفصلاً تاريخياً، بل هي تقوم على هندسة الانتشار كالفطر العشوائي، وبالخلايا النائمة والمستيقظة.
إقرأ أيضاً: بايدن “راجع”… في تايوان والظواهري والنفط
أكثر ما يمكن أن تستثمره أميركا هو تعزيز الثقة بسيّد البيت الأبيض، وأمام الديمقراطيين في الأخص، للإشارة إلى تفوّقها من حيث اللجوء إلى أنماط جديدة من الاستهدافات غير التقليدية، ونجاحها في توظيف الأسلحة العالية الدقّة، كي تثبت للعالم مدى قدرتها وتفوّقها في ما يخصّ تنفيذ العمليات العالية الجودة، وتمايزها في الجهد الاستخباراتي.
الجدير بالذكر أنّ القاعدة مُنيت إبّان فترة زعامة الظواهري بضمور الانتشار والفعّالية وخسارة قوّتها وتسرّب العديد من قادتها، بالإضافة إلى تنامي التنظيمات المتشعّبة من رحمها. فالظواهري كان في الأصل في مرحلة التقاعد، وهو ميت مهنيّاً قبل قتله طبيعياً.