ليس غريباً أن يخضع الاستحقاق الرئاسي في لبنان للتحليل والتكهّنات قبل شهر ويومين من بدء المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس الجديد في الأوّل من أيلول، وفق المادّة الـ73 التي تنصّ على أن “يلتئم المجلس النيابي قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بمدّة شهر على الأقلّ وشهرين على الأكثر بناء على دعوة من رئيسه… وإذا لم يُدعَ لهذا الغرض فإنّه يجتمع حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس”.
لكنّ اقتراب المهلة يُخضع التوقّعات في شأن الرئيس العتيد للكثير من الفرضيّات أكثر من إخضاعها للوقائع الفعليّة، لأنّه “ما من عاقل في الخارج وفي الداخل يرمي أوراقه في شأن الرئاسة منذ الآن”، كما قال مصدر سياسي بارز منخرط في البحث في الملفّ الرئاسي لـ”أساس ميديا”.
آب شهر الآلام الرئاسية..
الحسابات في شأن الرئاسة اللبنانية مرتبطة بالتطوّرات الجيوسياسية المهمّة التي تشهدها المنطقة، وبمسألة ترسيم الحدود البحرية التي تترافق المفاوضات في شأنها مع تسخين مفتوح على الاحتمالات كافّة، في انتظار عودة الوسيط الأميركي آموس هوكستين إلى بيروت في قابل الأيام. ولذلك سيكون شهر آب دقيقاً لِما يختزنه من احتمالات، سواء لجهة إمكان إنقاذ الاتفاق الأميركي الإيراني في الملف النووي، أو لجهة إمكان إنجاز الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل.
يتنازع الوسطَ السياسي اللبناني نوعان من المعطيات المتناقضة يقول العارفون إنّها تعكس تمايزاً أميركياً فرنسياً في شأن الاستحقاق الرئاسي حتى إشعار آخر
في هذا السياق تؤكّد مصادر المعلومات أنّ لبنان كان، بالإضافة إلى العناوين الإقليمية المهمّة الأخرى، طبَقاً رئيسياً على طاولة العشاء بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ليل أمس في قصر الإليزيه، الذي يأتي ضمن زيارة بن سلمان اللافتة لفرنسا. وتفيد هذه المصادر أنّ إعداد الجانبين الفرنسي والسعودي للمحادثات شمل البحث في رئاستَيْ الجمهورية والحكومة، والإصلاحات المطلوبة من لبنان.
التزام المهلة
في انتظار اتّضاح ما ستؤول إليه محادثات ماكرون وبن سلمان، فإنّ انتخاب الرئيس الجديد ضمن المهلة، وهويّته، يُنظر إليهما كجزء جوهري من انتشال لبنان من أزمته الاقتصادية المالية والمعيشية الخانقة التي وقع فيها منذ العام 2019. أمّا أن يشكّل التزام المهلة لازمةً في كلّ المواقف الدولية والعربية المتعلّقة بأزمة لبنان فيعود إلى الإلحاح على تفادي تكرار الفراغ الذي تحكّم بهذا الموقع على مدى 3 ولايات رئاسية سابقة، والذي بلغت مدّته ما يناهز سنتين ونصف سنة قبل انتخاب الرئيس ميشال عون عام 2016، ووُصف بـ”التعطيل القاتل”، وطاول تشكيل الحكومات أيضاً، وساهم في إيصال البلد إلى الكارثة التي حلّت به.
هل تتكرّر مأساة الفراغ الرئاسي؟ وهل يكون الرئيس الجديد امتداداً للعهد المنقضي، أي تخضع الرئاسة الأولى لنفوذ “حزب الله” في الولاية المقبلة؟ وهل من تسوية خارجية من ضمن خطة لانتشال البلد ممّا هو فيه؟… كلّها أسئلة تخضع للتمحيص في ظلّ الغموض الذي يكتنف الوضع الإقليمي والتحوّلات جرّاء انعكاسات حرب أوكرانيا على المنطقة، ومحاولات إنقاذ الاتفاق النووي.
تمايز أميركيّ فرنسيّ؟
يتنازع الوسطَ السياسي اللبناني نوعان من المعطيات المتناقضة يقول العارفون إنّها تعكس تمايزاً أميركياً فرنسياً في شأن الاستحقاق الرئاسي حتى إشعار آخر. في النوع الأوّل يظهر امتناع دول مؤثّرة عن التورّط في لعبة البحث عن اسم رئيس أو عن السعي إلى التوفيق بين الفرقاء من أجل اختيار شخصيّة محدّدة. وهذا ما يدفع العديد من الأوساط إلى الاقتناع بأنّ البلد مقبل على فراغ رئاسي بسبب صعوبة اتفاق الفرقاء المحلّيّين على الرئيس العتيد، في ظلّ تشتّت الأكثرية في البرلمان.
يصرّ دبلوماسيون غربيون على إبلاغ القادة اللبنانيين بأنّ الخارج لن يتدخّل. وأكثر السفراء جزماً في هذا الموقف سفيرتا الولايات المتحدة الأميركية دوروثي شيا، وفرنسا آن غريو، مهما كانت علاقة كلّ منهما مع هذا المرشّح أو ذاك.
شيا تتحدّى مَن يتوقّع تدخّلاً أميركيّاً
يصعب على القوى السياسية اللبنانية أن تصدّق أنّ الدول المعنيّة لن تتدخّل في هذا الاستحقاق، نظراً إلى التجارب السابقة، لأنّ رئيس الجمهورية في لبنان يتمّ اختياره نتيجة توافقات خارجية أو بفعل تقاطع على اسم معيّن حتى بين دول متناقضة المصالح إقليمياً ولبنانياً، وفي الحال الراهنة التقاطع المفترض هو بين الغرب وإيران.
في جلسة حصلت في الأيام القريبة الماضية بين أحد السياسيّين والسفيرة الأميركية شيا، تناول السياسي التدخّل الأميركي المرتقب في انتخابات الرئاسة، من باب انتقاد هذا التدخّل، فجاءه الجواب أنّ عليه أن يزيل من حساباته أيّ تدخّل أميركي، وطلبت منه مراقبة موقفها في هذا الصدد ومراجعتها إذا ظهرت أيّ مظاهر تدخّل.
بين التدخّل وعدم التدخّل الفرنسيّ
يفيد النوع الثاني من المعطيات باعتماد لغة تستبعد أيّ تدخّل من قبل الجانب الأوروبي، وتحديداً الفرنسي، لكن في الكواليس يجري البحث في بعض الأسماء من غير الأسماء المعروفة المطروحة: سليمان فرنجية، قائد الجيش العماد جوزف عون، باعتبار أنّ حظوظ جبران باسيل معدومة، وفرص سمير جعجع قليلة، ولا سيّما أنّه أبدى استعداداً لدعم ترشيح قائد الجيش. وفي وقت يسمع بعض اللبنانيين من الجانب الفرنسي “أنّنا لن نتدخّل ولا نريد ذلك، ولدينا خط أحمر هو لا للفراغ”، فإنّ أوساطاً سياسية لبنانية واسعة الاطّلاع تحدّثت عن قيام الجانب الفرنسي باستمزاج آراء بعض الفرقاء في اسم أحد الذين يتردّد ترشيحهم من غير المرشّحين المتداوَلة أسماؤهم، وأنّ هذا الاستمزاج شمل “حزب الله” عبر قناة التواصل المفتوحة بين الجانبين، التي تتولّاها السفيرة غريو في بيروت. وفي اعتقاد الأوساط المطّلعة نفسها أنّ الجانب الفرنسي ربّما يفعل ذلك تحوّطاً لحصول الفراغ.
مطالب باسيل من فرنجيّة وعرضه لباريس
لفتت هذه الأوساط أيضاً إلى أنّ رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل زار باريس قبل أكثر من أسبوع من أجل البحث في الاستحقاق، والتقى المستشار الدبلوماسي في الرئاسة المكلّف متابعة الملفّ اللبناني، السفير باتريك دوريل، من أجل أن يستكشف استعدادات الجانب الفرنسي في الشأن الرئاسي، وموقف باريس من ترشيح فرنجية وقائد الجيش. وتبيّن أنّ باسيل عرض التعاون من أجل التوصّل إلى توافق على شخصية ثالثة غيرهما. لكنّه لم يحصل على جواب واضح. إذ يخشى باسيل تقدُّم حظوظ فرنجية لدى الجانب الفرنسي، بعدما فشلت محاولته الحصول على تعهّدات مكتوبة من رئيس “المردة” عبر قنوات التواصل غير المباشرة بينهما، ومنها “حزب الله”، بتحقيق مطالبه بإجراء تعيينات في المناصب الإدارية المهمّة لمصلحته في حال وصول فرنجية إلى الرئاسة. لكنّ جواب فرنجية كان قاطعاً برفض أيّ تعهّد مكتوب، مع إبداء الاستعداد “لإعطاء باسيل حقّه” في التعيينات.
إقرأ أيضاً: قمّتا جُدّة وطهران: لبنان التائه عن التحوّلات
لغة عدم التدخّل لتوسيع التفاهمات؟
مع ذلك تواصل المصادر الفرنسية دعوة اللبنانيين إلى الكفّ عن “رمي أنفسهم في أحضان الخارج من أجل توريطه في الانتخابات الرئاسية، فيما ينصبّ نقاش باريس مع الدول المعنيّة على مسؤولية اللبنانيين عن الخروج من الأزمة، ولا تهمّنا الشخصية بل البرنامج، والمزاج الدولي مختلف تماماً عن السابق بفعل الحرب في أوكرانيا وتداعياتها، وبالتالي الانشغالات منصرفة تماماً عن لبنان”. بهذه اللغة تترك باريس مجالاً لتوسيع التفاهم حول الرئاسة في لبنان إن مع واشنطن، أو مع الدول العربية الفاعلة، مثل السعودية التي قد تكتفي بعدم الممانعة حيال واحد من الخيارات المطروحة، من دون الالتزام بأيّ دعم أو مساندة للشخصيّة التي قد يقع عليها الخيار في انتظار سلوكها، أو مصر التي يتردّد أنّ لديها مَن تفضّله، وإن لم تعلنه حتى الآن.