قمّتا جُدّة وطهران: لبنان التائه عن التحوّلات

مدة القراءة 8 د

ظهر لبنان مفكّكاً وتائهاً بين القمم التي ترسم تحوّلات استراتيجية في المنطقة، ومنغمساً في الأحقاد الداخلية التي تعيق معالجات أزمته الاقتصادية الماليّة وأوضاعه المعيشية البائسة المرشّحة لمزيد من التفاقم، حتى إنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وغيره من السياسيين ذهبوا إلى حدّ وصف ما يحصل فيه بـ”العصفوريّة” والجنون، على خلفيّة اقتحام قاضية العهد غادة عون مصرف لبنان المركزي.

بين نتائج قمّة جدّة الفائقة الأهميّة التي جمعت الرئيس الأميركي جو بايدن وزعماء دول الخليج الستّ ومصر والأردن والعراق، والتي خصّت لبنان بالفقرة الأطول من الفقرات الـ21 التي تضمّنها بيانها الختامي، ونتائج قمّة طهران التي جمعت رؤساء روسيا فلاديمير بوتين وإيران إبراهيم رئيسي وتركيا رجب طيب إردوغان، لا يبدو أنّ السلطة استطاعت التفاعل مع التطوّرات الخارجية بما تستحقّه من أهميّة نظراً إلى انعكاساتها الحتمية على لبنان.

فيما ركّزت قمة طهران على التعاون بين الدول الثلاث في سوريا ومعالجة الخلافات في شأنها، من باب إحياء صيغة آستانا، من دون أن تتطرّق إلى لبنان، فإنّ بيان جدّة رسم خريطة طريق حلّ لأزمته، باتت تتكرّر بمعظم نقاطها في القرارات والمواقف الدولية والعربية كافّة، وصولاً إلى التبنّي الأميركي العربي للمبادرة الكويتية التي تتضمّن 12 بنداً، بينها “التزام النأي بالنفس قولاً وفعلاً”.

بقيت ردود الفعل اللبنانية على بيان قمّة جدّة محدودة، وأوّلها جاء من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الذي “ثمّن” ما ورد في البيان الختامي “لجهة الوقوف إلى جانب لبنان

أهميّة فقرة لبنان واعتراف بايدن بالخطأ

كان يمكن التذرّع بأنّ هدف زيارة بايدن للمنطقة، وتحديداً السعودية، يتعلّق أساساً بضمان بدائل عن النفط والغاز الروسيَّين إلى أوروبا في إطار الذروة الجديدة للصراع الدولي انطلاقاً من حرب أوكرانيا، والقول إنّه لا ناقة ولا جمل للبنان كي يُقحم نفسه في مفاعيل قمّة جدّة وفي الانقسام الذي يرتّبه هذا الصراع في وقت يكفيه ما يعانيه، لولا أنّ الفقرة المتعلّقة بلبنان في بيانها الختامي توسّعت في تفنيد عناوين أزمته بدءاً بالإصلاحات وإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، وتنفيذ اتفاق الطائف والقرارات الدولية. اللافت أنّ هذه الفقرة كرّرت ثلاث مرّات الدعم للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، وهو ما يشير إلى نيّة تركيز الدعم والمساعدات الأميركية والعربية في المرحلة المقبلة على هاتين المؤسّستين، بموازاة التشديد على سيادة الحكومة على أراضيها “فلا يكون هناك أسلحة إلا بموافقة الحكومة اللبنانية، ولا تكون هناك سلطة سوى سلطتها”.

فضلاً عن ذلك جاءت الفقرة عن لبنان في سياق مستجدّات أبرزها إعلان بايدن أنّ إدارته لن تكرّر خطأ الانكفاء من الشرق الأوسط وترك المجال لإيران وروسيا والصين لملء الفراغ (وهذا يشمل لبنان بالنسبة إلى إيران)، وفي ظلّ التشدّد الأميركي حيال تدخّلات إيران في المنطقة ومنعها من حيازة السلاح النووي.

التفاعل اللبنانيّ: ميقاتي مقابل “الحزب” و”التيّار”

بقيت ردود الفعل اللبنانية على بيان قمّة جدّة محدودة، وأوّلها جاء من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الذي “ثمّن” ما ورد في البيان الختامي “لجهة الوقوف إلى جانب لبنان، وخصوصاً دعم الجيش وقوى الأمن الداخلي ومؤازرتها لتتمكّن من بسط سيادة الدولة اللبنانية على كلّ أراضيها”.

كان ميقاتي الوحيد الذي رحّب بالبيان من مواقع السلطة، فيما تجاهله رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ورئيس البرلمان نبيه برّي، ولم يصدر أيّ تعليق عن وزارة الخارجية، التي يتولّاها الوزير عبد الله بوحبيب، الموالي للرئيس عون، على الرغم من أنّ القمّة شكّلت حدثاً كرّس استعادة المملكة العربية السعودية دوراً أساسياً على المسرح العالمي، مهّد له وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان بتكريس المصالحة مع تركيا، وزيارته كلّاً من مصر والأردن قبل انعقاد القمّة.

أمّا على صعيد الأحزاب فقد صدر عن “لجنة الإعلام في التيار الوطني الحر” بيانٌ رحّب “بما تضمّنه بيان قمّة جدّة من دعم للبنان وبما وعدت به دول عربية من مساعدات”. وربط “التيار” دعم سيادة لبنان “بحقوق لبنان كاملة في استخراج ثروته الغازية والنفطية، وبمطلب التيار بإعادة النازحين السوريين إلى بلادهم”. وأوضح مفهومه للعلاقات مع الدول العربية بالتأكيد على بناء “أفضل العلاقات مع الدول العربية بروح الانفتاح والتعاون والاحترام المتبادل وتحييد لبنان عن الصراعات والنزاعات التي لا شأن له بها وعدم تحميله وزرها”. وهذه إشارة إلى رفض الانحياز إلى دول قمّة جدّة في وقوفها ضدّ التدخّلات الإيرانية في شؤون الدول العربية. إذ إنّ “التيار” أمل أن “تكون هذه القمّة فاتحةً لحوار شامل في المنطقة، يؤدّي إلى إنجاز الاتفاق النووي، وإلى تقارب فعليّ بين إيران ودول الخليج، وإلى إعادة سوريا إلى الجامعة والحاضنة العربية”. ورد تعليق “التيار الحر” ببنوده وصياغته أقرب إلى بيان قمّة طهران منه إلى بيان جدّة. إذ جاء ترحيب “التيار” مرهوناً بأجندته المتّصلة بتحالفه مع “حزب الله” وبموضوع إعادة النازحين السوريين واستعادة العلاقة مع سوريا.

أمّا “الحزب” فكانت ردود فعل قياديّيه عنيفة. ومع أنّ الفقرة اللبنانية من بيان جدّة لا تذكره بالاسم كما في بيانات أميركية وخليجية وعربية سابقة، فإنّ أحد قياديّيه الشيخ نبيل قاووق هاجم السعودية، بينما اعتبر المفتي أحمد قبلان، المقرّب من “حزب الله”، أنّ قمّة جدّة “ليست أكثر من جلسة تصوير”.

 

قمّة جدّة بغياب لبنان وقمّة طهران بغياب سوريا

بحثت قمّة جدّة وضع لبنان في غيابه ومن دون دعوته إليها. وللمرء أن يتصوّر لو وُجّهت الدعوة كيف أنّ السرديّة التي استخدمها “التيار الحر” في بيانه هي التي عبّرت عن موقف لبنان الرسمي، خارج السياق الذي انعقدت القمّة في إطاره. وفي اعتقاد أوساط سياسية معارِضة للعهد العوني أنّها كانت فرصته كرئيس مسيحي لأن يدلي بموقف إيجابي حيال قمّة جدّة في لحظة سياسية دقيقة يبدي فيها تقاربه مع الدول العربية. لكن على العكس، هناك مَن يعتبر في الفريق الرئاسي أنّ ترحيب ميقاتي بالبيان الصادر عن القمّة كان مستعجلاً. ورأى أصحاب هذا الرأي أنّ الفقرة المتعلّقة بلبنان نسبت بطريقة غير مباشرة إلى الجيش وقوى الأمن الداخلي نجاح الانتخابات النيابية، بينما الحكومة ووزارتا الداخلية والخارجية هي التي أنجحتها. تستهدف هذه الملاحظة قائد الجيش العماد جوزف عون بما هو مرشّح لرئاسة الجمهورية كثر الحديث عنه في الآونة الأخيرة في وجه المرشّحين الآخرين سليمان فرنجية القريب من “حزب الله” وجبران باسيل على رغم إدراكه أنّ لديه من الخصوم ما لن يمكّنه من تأهيل نفسه للترشّح.

تكرّرت المفارقة نفسها في قمّة طهران. إذ تركّز البحث على سوريا في غيابها. وكان السبب الوحيد لزيارة وزير خارجيّتها فيصل المقداد للعاصمة الإيرانية أثناء انعقاد القمّة تلقّي النتائج التي أسفرت عنها الجهود الروسية الإيرانية لثني تركيا عن القيام بالعملية العسكرية في الشمال السوري التي يلوّح بها إردوغان منذ أيار الماضي لاحتلال المناطق التي توجد فيها قوات “حماية الشعب” الكردية و”الحزب الديمقراطي الكردستاني”، بحجّة إعادة مليون نازح سوري إلى تلك المناطق. لكنّ مرشد الجمهورية الإيرانية السيد علي خامنئي حذّره من أنّ “أيّ هجوم عسكري في شمال سوريا سيضرّ بالتأكيد بتركيا وسوريا والمنطقة بكاملها ويفيد الإرهابيين”، في تأكيد علني على احتمال حصول صدام تركي إيراني في حال نفّذت أنقرة هجومها الذي تتوعّد به، وهو ما سعى الجانبان الروسي والإيراني إلى تداركه بوعد لإردوغان بالسعي ضمن مهلة محدّدة إلى العودة إلى اتفاق سوتشي الذي عُقد قبل سنوات ونصّ على إبعاد المسلّحين الأكراد عن الحدود مع تركيا بعمق 30 كيلومتراً، على أن ينتشر الجيش السوري مكانهم بإشراف روسي، لكن لم يتمّ تنفيذه.

من البديهي ترقّب دور “حزب الله” في أيّ توجّه للضغط العسكري على الوجود العسكري الأميركي شرق الفرات، بموازاة تهديد “الحزب” باستهداف حقل “كاريش ” الإسرائيلي ردّاً على الهجمات الإسرائيلية ضدّ ميليشيات طهران على الأراضي السورية

“طرد” الأميركيّين من شرق الفرات واستهداف “كاريش”

مع أنّ أزمة لبنان استُبعدت من البحث في طهران نظراً إلى كثرة الخلافات بين رؤساء الدول الثلاث، حسبما لفتت أوساط على تواصل مع موسكو، فإنّ التقارب الروسي الإيراني في شأن سوريا يستدعي أيضاً استكشاف كيفيّة انعكاسه على لبنان. فخامنئي دعا خلال لقائه الرئيس الروسي والوفد المرافق له الثلاثاء إلى “طرد الأميركيين من منطقة شرق الفرات في سوريا”. وهل تسلك موسكو هذا المنحى التصعيدي مع واشنطن بتغطية هدف كهذا.

إقرأ أيضاً: إسرائيل تصدِّر غازها… ولبنان سيبقى يتفرّج!

من البديهي ترقّب دور “حزب الله” في أيّ توجّه للضغط العسكري على الوجود العسكري الأميركي شرق الفرات، بموازاة تهديد “الحزب” باستهداف حقل “كاريش ” الإسرائيلي ردّاً على الهجمات الإسرائيلية ضدّ ميليشيات طهران على الأراضي السورية. وهي هجمات حصلت على إدانة في البيان الثلاثي المشترك في طهران وبطلب من الأخيرة.

حصل كلّ فريق على ما يريده من البيان الختامي للقمّة الثلاثية، لكنّ الأبرز أنّ موسكو حصلت وفق أوساطها الدبلوماسية على منبر في مواجهة زيارة بايدن للمنطقة، مقابل العزلة التي أرادتها لها واشنطن، وبحضور عضو رئيسي في الناتو هي تركيا التي ربحت وعداً بإبعاد المقاتلين الأكراد عن الحدود، وتكرّست وسيطاً من أجل نقل الحبوب والموادّ الزراعية الأوكرانية وتصديرها إلى أوروبا وسائر الدول.

مواضيع ذات صلة

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…

حماس وأزمة المكان

كانت غزة قبل الانقلاب وبعده، وقبل الحرب مكاناً نموذجياً لحركة حماس. كان يكفي أي قائد من قادتها اتصال هاتفي مع المخابرات المصرية لتنسيق دخوله أو…